التعليم من أجل المستقبل

التعليم من أجل المستقبل

بقلم الدكتورجـمـال الـطـاهـات التعليم من أجل المستقبل

منذ تلقيت رسالة الاستاذ محمود المساد، والذي تفضل مشكوراً باقتراح أن أكتب تحت عنوان: التعليم من أجل المستقبل، واجهني سؤال بشكل مُلِّح وعنيد: هل يمكن الحديث عن التعليم من أجل المستقبل؟ إذ أن الفكرة تبدو لي أنها تقدم غواية استثنائية لتفكيكها، وإعادة طرح السؤال بشكل مختلف

 هل التعليم كتقنية معروفة ومن ميراث الحداثة، ما تزال ممكنة “الاستعمال” لمواجهة المستقبل؟ بمعنى أن استمرار التفكير بالتعليم والمستقبل الذي تفرضه الثورة التكنولوجية الرابعة، ينطوي على مغالطة عدم الانسجام، أو مغالطة التركيب التعسفي. وفي ظني أن مفهوم “التعليم” لم يعد يصلح للمستقبل الذي علينا مواجهته. فالمستقبل الذي تفرضه الثورة التكنولوجية الرابعة لا يمكن مواجهته عبر التعليم. فالتعليم من اجل المستقبل كان ممكناً قبل عقود، ولكنه لم يعد ملائماً ونحن بحاجة لمقاربة جديدة، ولمفهوم جديد. ونقطة الانطلاق هي في التحول من التعليم إلى التعلم

ويمكن الاستعانة بنظرية النظم، وما تقدمه من تصورات تمكن من أخذ منظومة ما من “نمط أداء” إلى نمط أداء جديد. فهناك ضرورة لإحداث قطيعة مع نمط من الممارسة القديمة. وهذا يتطلب تطوير قواعد ومعايير جديدة لضبط تحول الممارسة نحو تحقيق هدف جديد. فإذا بقيت العناصر تؤدي وتعمل بذات الطريقة السابقة، لن نحقق أهداف جديدة، ولن نطور المنظومة

وأي محاولة لتطوير منظومة التعليم (مع بقاء عناصرها تؤدي كما هي الآن) لمواجهة المستقبل كما تتبدى بعض ملامحه، تشبه محاولة الدخول بسباق واستعراض للطائرات بتحسين ما لدينا من سيارات. مهما أحدثنا من تطوير على السيارات فلن تكون ملائمة. ولا بد من التفكير في كيفية استثمار المواد المستعملة في السيارة لإعادة توظيفها في بناء طائرة ملائمة. ولكن فكرة الطائرة ليست سيارة محسنة، بل هي فكرة جديدة، تتطلب إحداث قطيعة حاسمة مع فكرة السيارة. ليس لإدانتها والحكم عليها، ولكن لتقييم مدى انسجامها مع الهدف الجديد، الذي يقرر خصائص المنظومة الجديدة وطبيعتها، وضرورة القطيعة مع المنظومات السابقة. فالمطلوب طائرة، وليس سيارة تطير وهذا يتطلب تصورات جديدة لكل عناصر ومكونات المنظومة، وعلاقات جديدة بين عناصر المنظومة، ويستلزم مفاهيم جديدة عن الاداء ومعاييره

تطوير المنظومة ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر، لا يتحقق بمجموعة تحسينات هنا وهناك، ولكن عبر تصور جديد، يعيد بناء العلاقة بين كل عناصر المنظومة، للحفاظ على اتساقها مع الهدف الجديد أو المهمة الجديدة. فتركيب أجنحة للسيارة لن يغير من طبيعتها إلا إذا تغير أداء كل عنصر من عناصرها. صحيح أن العديد من مكونات وعناصر السيارة تشبه وظيفياً ما في الطيارة. ولكن تركيب وتفعيل اجنحة يتضمن إعادة هيكلة لأغلب مكونات السيارة، مما يتطلب إعادة هيكلتها

(re-architecture)

. من هنا فإن الحاجة هي إعادة تصميم وإعادة تفعيل لعناصر منظومة التعليم، وصياغتها بمنظومة جديدة هي منظومة التعلم. وهذا يتطلب فكرة جديدة تحدث قطيعة بين فكرة التعليم وفكرة التعلم، تقود وتوجه التحولات والتعديلات في اداء كل عناصر المنظومة

النقلة الفكرية الحاسمة من التعليم إلى التعلم، تتطلب تصور جديد يعيد توظيف الموارد المتاحة في منظومات التعليم لبناء منظومات التعلم. ودون فهم القطيعة النظرية الموضوعية بين التعليم والتعلم، واستيعابها عبر تصور جديد لمنظومة الأداء، لن نستطيع المضي قدماً بعملية التطوير والإصلاح. وسنبقى ندور في حلقات مفرغة تبدد الموارد والفرص وتهدر الزمن الذي يجب الحفاظ عليه باعتباره العنصر الأهم لقياس القدرات. فليس مهماً الطاقات والموارد والمتاحة، بل تركيزها بمهمة واضحة بزمان محدد (قدرات جديدة). والتعريف البسيط للقدرة هو الطاقة التي يمكن حشدها وتوظيفها في وحدة الزمن. وقدرة المنظومة متعلق بأداء عناصرها، وتوظيف مواردها المتاحة بطريقة جديدة

إن الانتقال من التعليم إلى التعلم، يتطلب تصورات جديدة لكل عناصر المنظومة، وقدرات ذهنية تستطيع أستيعاب المتطلب الفكري (فهم جديد للمعرفة ودورها في التعليم)، والسياسي (ضرورة توفير مظلة سياسية)، والإداري (تطوير وسائل ضبط وتوجيه جديدة)، والقانوني (صياغة القواعد الجديدة التي تمنح الاستقرار) للتحولات المطلوبة. نحن بحاجة إلى مُعلّم جديد، وفكرة منهاج جديدة، ومرافق مدرسية جديدة، ووسائل وطرق جديدة لقياس وتقييم منتجات العملية التعليمية، ووسائل جديدة “لتقويم” الاداء وضمان أن يبقى ضمن التصورالجديد، ومعايير جديدة لتقييم أداء الإدارات والمعلمين بشكل ملائم للمهام الجديدة. والأهم علاقة جديدة بين المجتمع وبين منظومة التعلم. فالعلاقة بين المجتمع ومنظومة التعليم مختلفة نوعياً وبشكل عميق عن العلاقة بين منظومة التعلم والمجتمع. وربما هذا هو الإطار المرجعي للانتقال من التعليم إلى التعلم. تفكيك وإعادة تركيب العلاقة بين المعرفة والمجتمع، وفهم طريقة تنظيم هذه العلاقة بإطار مؤسسي اسمه المدرسة. منظومة التعليم مصممة استناداً إلى تصور محدد للمعرفة والمجتمع، منظومة التعلم تنطلق من تصور جديد لكلاً منهما

ويمكن عند هذه النقطة التذكير بأن تطور التعليم عبر القرون اقترن بتطوير فكرة المدرسة ووظائفها ودورها الاجتماعي. منذ اختراع المدرسة في القرن الخامس قبل الميلاد، وهناك حدين اثنين لرسم إطارها المرجعي الاول هو التصور عن المعرفة

والثاني هو التصور عن المجتمع

ويمكن الاستنتاج بأن فكرة المدرسة التي انطلقت من تصور وظيفي للمعرفة، قد أثرت بشكل فعال على مجمل حركة المعرفة، ولا يمكن تجاهل تأثيرها على مجمل تاريخ المعرفة. ولكن المهم هنا أن التطورات التي حدثت على فكرة المدرسة هي التي كانت تقود التحولات والتطورات في فكرة (التعليم). فالتعليم كمنظومة تطورت عبر تطوير فكرة المدرسة، من حيث هي جسر بين المجتمع وبين المعرفة. فكل مرحلة من مراحل تطور فكرة المدرسة كانت تنطوي على مجموعة فرضيات ومفاهيم متعلقة بالمعرفة وبعلاقتها بالمجتمع، وبما يمكن أن تقدمه عملية التعليم المنظمة للمجتمع، باعتبارها جسر لردم الفجوة بين الحياة اليومية وبين المعرفة

الشروط التاريخية لفكرة التعليم

مفهوم التعليم يتضمن جعل التلميذ موضوعاً للصياغة والتشكل حسب نموذج محدد. فأن تُعلم يعني أن يكون الطالب أو التلميذ مجرد موضوع أو مادة اولية تتشكل بفاعلية “فعل التعليم”. وفي اللغة الإنجليزية هناك فرق  (تعليم Education وتعلم Learning) كبير بين نشاطين

. في اللغة العربية، هناك فعل (علّم، ويشتق منه تعليم) يكون التلميذ مفعولاً به. وفعل آخر (تَعلّم ) يكون التلميذ فاعلاً والمعرفة مفعول به. وجيلنا يتذكر أن التعليم الذي كان يمارسه المعلم، يتضمن إلزامنا بتَعلُّم معرفة محددة. فالتعليم كان قيادة لفعل التعلم، لاكتساب معرفة محددة يقينية ونهائية ومستقرة. وتمكن التعليم كتقنية ومنهجية عمل، من تقديم ما يلزم لحل المعضلات العالقة أمام الاجيال الجديدة (في مرحلة ما بعد الاستقلال) من تجاوز العقبات لاكتساب (وتعلم) المعرفة التي كانت توصف بأنها جديدة. ولكنها كانت معرفة مستقرة ونهائية وذات طابع يقيني (العديد من الفرضيات الأساسية حول المعرفة أصبحت موضع مراجعة). كما أنها كانت تستند إلى أن التعليم منصة لسلطة معرفية، تقرر بشكل حاسم ونهائي ما هو صواب وما هو خطأ. فالتعليم اكتسب فاعليته من تصور هرمي لعملية انتاج ونقل المعرفة وتعميمها

لقد كان التعليم مهمة ضرورية تتصدى لها مجموعة من المستنيرين للمساهمة بقيادة المجتمعات وأخذها من مرحلة تاريخية محددة إلى مرحلة تاريخية جديدة واضحة المعالم، وذلك عبر حقن المجتمعات بمعرفة يقينية محددة وواضحة. لقد كان التعليم منظومة عمل (ويمكن القول للتوضيح وسيلة) فعالة هدفها نقل المجتمعات من مستوى معرفي محدد إلى مستوى معرفي جديد واضح المعالم. وأهم ميزة لوظيفة المعرفة في تلك المرحلة هي اكتساب معلومات، يقينية عن الطبيعة والحياة. فالتعليم كان جسراً لربط مجتمعات تنتمي انتاجياً وثقافياً إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، مع مرحلة من مراحل تطور المعرفة، ارتبطت بنمط انتاج عالمي (صناعي) سائد مستقر ومفهوم

ويمكن القول أن هناك مجموعة شروط تاريخية واضحة جعلت فكرة التعليم ممكنة

  اولا واقع المجتمعات كان محدداً بدقة، ومنظومات الانتاج السائدة في المجتمعات كانت معروفة
ثانيا منظومات الانتاج البديلة أيضاً كانت واضحة المعالم. فمراسي ومسارات عملية التعليم كانت واضحة. وهي امتلاك المعرفة التي تمكن من الدخول في عصر الآلة والتصنيع
ثالثا المتطلبات المعرفية لاستيعاب منظومة الانتاج الجديدة وتشغيلها كانت واضحة. وكانت المعرفة الضرورية لاستيعاب نمط الانتاج تستند إلى يقينيات محددة، وكان بالإمكان تقديمها للجيل الجديد
رابعا هرمية المعرفة ويقينيتها. حيث كانت المعارف التي تقدم ذات طابع يقيني، وأيضاً يتم انتاجها وتعميمها عبر بنية هرمية. وهو شبيه بما كان سائداً قبل تصميم بنية منظومة التعليم. أي أن تقنية التعليم كانت تنسجم مع ديناميكيات انتاج ونشر المعرفة التي كانت سائدة وقت تصميمها
خامسا المعرفة اليقينية الجديدة التي حُملت عبر التعليم، كانت مهمتها تفكيك يقينيات مستقرة، واستبدالها بيقينيات جديدة. وليس مواجهة عدم اليقين
سادسا المدرسة ومنظومة التعليم كانت تمثل القناة المركزية (وربما الوحيدة) لتوصيل المعرفة الحديثة للمجتمعات، وكان الجزء الأغلب والأعم من المعرفة العلمية (أو التي لها قالب علمي) تتم عبر منظومة التعليم، أو بشكل منسجم معها

فالتعليم كان ممكناً لنقل المجتمع من مستوى معرفي محدد إلى مستوى معرفي جديد محدد وواضح المعالم. فقد كان جسراً يربط بين ضفتين مستقرتين. حاضر مستقر واضح مطلوب مغادرته، نحو مستقبل معالمه واضحة ومتطلباته المعرفية أيضاً واضحة المعالم

التحدي الجديد

ولكن الحال الآن ليس كذلك. فواقع المجتمعات ملتبس وغير واضح. فإن المجتمعات التي كان همها الحفاظ على هويتها والالتحاق بالحضارة الإنسانية، لم تعد ضفة مستقرة ويمكن أن تحمل رأس جسر معرفي بشكل مستقر. فما يمكن أن يسمى الحاضنة الثقافية للهوية اختلفت بشكل حاسم. يضاف إلى ذلك التحولات المتسارعة في منظومات القيم، وفي عملية إعادة تشكل المجتمعات، التي تجري الآن بفاعلية ضغط لا يمكن مقاومته، تفرضه الثور الصناعية الرابعة، عبر الشبكات والهويات العابرة للثقافات والحدود السياسية. إذ تبدو المجتمعات التحقت بالعصر دون قيادة من قبل منظومة التعليم. يضاف إلى ذلك هو تحولات في موقف النخب

السياسية من التحدي المعرفي. ففي حين توفرت سابقاً مظلة سياسية وفكرية جعلت مهمة بناء المدرسة وتفعيلها ممكنة وسهلىة. حيث كان تصور النخب السياسية لمصالحها منسجم مع فكرة التعليم، من حيث أن التعليم وسيلة لضبط الفاعلية السياسية للمعرفة، بطريقة تحافظ على الإستقرار، وتمكن من تحقيق التقدم والتحديث. ولكن هناك مبررات سياسية وامنية لشكوك كبرى لدى النخب السياسية حول التحولات المعرفية، العديد من هذه الشكوك مبني على فهم ملتبس للتحدي المعرفي في العالم المعاصر

على الضفة الأخرى للجسر، فإن المعرفة التي نريد تعليمها للجيل الجيد لم تعد واضحة، وهي تتحول بسرعة هائلة. فأي منهاج يُعَد بالطريقة القديمة، ما أن يكتمل تدريب المعلمين على تعليمه وتعميمه على الطلاب، حتى يصبح بحاجة لمراجعة وتعديل وتطوير. من جهة أخرى، فقد كان المنهاج ينفرد بصياغة معرفة الجيل، وكان “الخصم” هو تصورات ومعارف تنتمي إلى عصور سابقة (اكتسبت طابع اليقينيات)

إن ما تواجهه منظومة التعليم الآن، سيل هائل من منتجات صناعة الجهل التي تسعى لتضليل الشعوب والمجتمعات عبر التشكل أو التخفي بقوالب المعرفة العلمية. وما يمكن أن يقدمه المنهاج من معرفة للطلاب لا يزيد عن 5% من المعارف التي يتعرض لها التلاميذ، عبر السيل الذي أصبح متاحاً بثورة المعرفة المرافقة للثورة التكنولوجية الرابعة

يضاف إلى ما سبق، فإن الإطار النظري للمعرفة المعاصرة، ليس التوصل إلى اليقينيات، ولكن إدارة عدم اليقين، وإدارة التحولات والممكنات المترافقة مع التطور في المعرفة. فأهم اختلاف هو تغير الإطار المرجعي  (Intellectuable) للمنظور المعرفي، من البحث عن اليقينيات إلى البحث عن وسائل ومنهجيات لإدارة عدم اليقين وجعله قابل للاستيعاب

اختلاف الإطار المرجعي الذي يشكل تصورنا ومنظورنا للمعرفة، ليس تجربة تاريخية جديدة. والدعوة لتطوير التعلم لمواجهة التحولات في تصور المعرفة وفي اختلال وظيفتها ليست تجربة تاريخية فريدة (فكرياً وسياسياً)

ففي القرن السابع عشر، مع بدايات الثورة العلمية، كان عنوان تلك اللحظة هو (تقدم التعلم )، وهو عنوان احد كتب فرانسيس بيكون. ففي تلك المرحلة كان المطلوب تطوير الممكنات لاستيعاب المنهج الجديد للمعرفة والمتمثل بالمنهج التجريبي الذي دمج الحواس بالأطر النظرية للمعرفة. وهي تجربة معرفية متميزة واستثنائية في التاريخ الإنساني

من جهة أخرى، فما تضمنته يوتوبيا فرانسيس بيكون في رواية (أطلانطس الجديدة )، هو تقديم ما يلزم للتعلم ومواجهة المتطلبات الجديدة لتحصيل المعرفة. كما أن ثورة معاهد البحث والاكاديميات مكنت من استيعاب صدمة هذا التحول المنهجي. وبدأت الجهود لتأسيس حالة معرفية يقينية جديدة، تستند إلى المنهج العلمي، حققت نجاحات كبرى، بلغ حد أن العلماء في سبعينيات القرن التاسع عشر، تصوروا أن معرفتهم عن الكون قد تكن مكتلمة مع مطلع القرن العشرين. ولكن القرن العشرين، جاء محملاً بتحديات مختلفة، ربما أبرزها ضرورة مغادرة اليقين المعرفي، كوسيلة للمضي قدماً. حيث بدأت معالم هذه الثورة تؤتي أكلها وتفرض نفسها مع الربع الاخير من القرن العشرين، وهو ميراث عصرها الراهن. حيث تخلت المغامرة المعرفية عن هدف الوصول إلى اليقينيات

من هنا فإنه في ظل عدم وضوح معالم معرفة المستقبل، وعدم استقرار المجتمعات وثقافتها وتشكيلها، فإن وجود تعليم للمستقبل، تبدو متحارجة او مغالطة، أو إصرار على استعمال منظومة صممت لتخدم في ظروف معينة لمواجهة ظروف جديدة، وتحقيق غايات جديدة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التعليم (ليس أداة) بل منظومة. وهذا التمييز ضروري لفهم ميزة المنظومات ومحدوديتها. صحيح أنه يمكن توظيف الادوات (او الآلات) في أكثر من مهمة، ولكن المنظومات لا يمكن لها أن تنتج إلا ما صممت من أجله. ففي المحصلة أي أداة، أو آلة تشكل مع الذراع الذي يستخدمها منظومة تؤدي في لحظة وفي ظرف محدد وظيفة محددة لتحقيق هدف واضح

ببساطة الآلات مستقلة عن ممكنات توظيفها. ولكن المنظومات مقيدة بما صممت من أجله. فالمنظومة هي أدوات وإرادة وهدف ولحظة زمنية. ويمكن القول بكل وضوح أن السعي لإجراء تحسينات في منظومة التعليم الموجودة الآن، بهدف مواجهة مستقبل مختلف عن ذلك المستقبل الذي واجهته المجتمعات لحظة تصميم وتطوير وانتاج منظومة التعليم، خيار غير ملائم. وهو يشبه الإصرار على اعتماد خرائط قديمة لتوجيه المسيرة نحو مرسى غير معروف وغير مسجل بتلك الخرائط. فالمستقبل الذي نسير نحوه الآن مختلف نوعياً وبنيوياً عن ذلك الذي واجهته مجتمعاتنا بعيد الاستقلال، وصممت المدرسة لتكون جسر العبور إليه

فرص الانتقال من منظومة التعليم إلى منظومة التعلم

التعلم هو الطريق نحو مستقبل جديد. ولكن التحدي الذي يواجه المجتمعات، الآن هو كيف يمكن الحفاظ على وحدتها، والمضي نحو المستقبل برحلة يمكن السيطرة على مخاطرها؟ فحين تصبح المسارات غير واضحة، والمراسي غير معروفة، فإن مخاطر المسير تأخذ أشكالاً جديدة، تتطلب وسائل أمان من نوع مختلف

لن يختفي التعليم، وليس مطلوباً اختفائه، وهو احتمال ضئيل الحدوث، ولكن يجب إعادة تصميم وتشغيل منظومة التعليم في ضوء ضرورة الانتقال نحو التعلم وفي إطار عملية التحول بهذا الاتجاه. فالمركبة التي ستوصل مجتمعاتنا نحو المستقبل هي مركبة التعلم. تطوير منظومة التعليم إلى منظومة التعلم، ليس فقط من أجل المستقبل، ولكن من أجل الحاضر. فالتعليم كفكرة ومؤسسة تنتمي إلى الماضي القريب، ولكن حاضرنا الذي نحن جزء منه، تجاوز تلك المرحلة، ونحن نقف أمام عتبات مستقبل مختلف عن ماضينا القريب الذي شكل حاضرنا، ووضعنا امام أفق تطور من نوع مختلف

نظرية النظم تؤكد على فرصة التكيف (الآن) من أجل المستقبل. فالمستقبل الذي نعجز عن معاينته بعين اليقين، إما أن تكون أحد أبرز خصائصه، اتساع هوامش عدم اليقين التي على الأجيال القادمة العيش معها، أو أنه يبدو لنا كذلك بسبب عجز ما لدينا من ادوات معرفية عن إدراك وفهم القواعد الناظمة له، وأن القواعد التي تحكم حركة الطبيعة والحياة في المستقبل، خارج نطاق قدرات مخزوننا المعرفي. وأياً كان السبب

هل هو محدودية قدراتنا المعرفية لإدراك خصائص المستقبل وفهمه، أم هي خصائص المستقبل نفسها، فإننا ملزمون بالانتقال من منظومة التعليم المبني على اليقين إلى منظومة جديدة أبرز سماتها تأهيل المجتمعات للتعامل مع عدم اليقين، الناشئ عن عدم القدرة على إدراك المستقبل بقواعد يقينية
فما يتوفر لنا من معرفة، غير كافي لتشكيل موقف للاجيال الجديدة مستند إلى يقين ما متعلق بالمستقبل. فاليقين الوحيد بين يدينا متعلق بمعرفتنا، وأن ما “نعرفه” عن المستقبل أقل بكثير من ما “لا نعرفه”. في القرن السابع عشر، كان التحدي متابعة فرصة تحصيل المعرفة بمنهجية جديدة، تبشر بتطوير وتوسيع المعرفة بمسارات يقينية. التحدي الآن مختلف، وهو مواجهة المستقبل بمنظومات معرفية وصلت لتخوم قدراتها، وانكشاف لحدود اليقين وممكناته، وبروز منهجيات جديدة تماماً، لمواجهة عدم اليقين بتصورات جديدة عن المعرفة نفسها. فلم يعد اليقين هو المطلب، بل فهم عدم اليقين وإدارته والتعاطي معه

القواعد البسيطة في نظرية النظم تؤكد اننا نصوغ المستقبل الآن. فنحن نعيد بناء الحاضر ليسنجم مع “يقين ما” حول المستقبل، واليقين الذي يمكن الإشارة إليه هو (غياب المعرفة اليقينية). نظرية النظم (متسلحة بالمنهجيات العملية الحديثة والتي انطلقت في سبيعينات القرن الماضي كمنهجيات مستقرة، بنظرية الشوش وغيرها من تحولات

والتي تنطوي على مراجعات كبرى لفكرة العلم وقوانينه، ولفكرة المعرفة وظيفياً ومنهجياً)، ربما هي المقاربة الوحيدة التي تمكن من التعامل مع حالة عدم اليقين، من حيث أنها تساعدنا على إدراك متطلبات التكيف مع ما “نعرف”، ومع ما “لا نعرف”. حيث أصبح ما لا نعرف “أنطولوجيا” قابل للتحديد والتعاطي معه معرفياً (بمنهجيات معرفية، وليس بمقاربات اعتقادية شبه يقينية)، وتطوير منظومات مؤسسية لإدارته والسيطرة عليه

وهذا صحيح بغض النظر عن المنظومات التي نحن بصدد تطويرها، وبغض النظر عن اهداف وغايات التطوير. كما أن نظرية النظم تساعد على تصميم خريطة التحول، استناداً إلى العنصر القائد. فعمليات التكيف المعقدة والمركبة، تبدأ بخطوة مركزية تأخذ كافة العناصر وتطورها لتنسجم معها

وهنا يمكن لغايات التوضيح، والبقاء قريبين من مثال السيارة والطيارة، التذكير بتجربة عباس بن فرناس. فهو بالرغم من تركيبه للأجنحة، بمهارة فنية رائعة، حسب الأسطورة اليونانية، لم يتمكن من الطيران، لأن تركيب الجناح، يتطلب تغييرات عميقة وبنيوية على مجمل مكونات الجسم الطائر. إضافة الجناح إلى كائن له الخصائص الفيزيائية للجسم الإنساني، لا يحوله إلى طائر. ولا بد من تنفيذ سلسلة من التعديلات على مجمل البنية، كشرط لتحقيق هدف جديد وهو التمكن من الطيران. فالتكيف حسب نظرية النظم، ليس استجابة مؤقتة ومعزولة، هو تغير بنيوي، وتحولات تطال نمط وقواعد أداء العديد من عناصر المنظومة، للتطور من أجل تحقيق هدف جديد

هناك من يقول أن العنصر القائد الذي يشبه الاجنحه، هو المنهاج، وآخرون يرونه في المعلم، وغيرهم يراهن على أن العنصر القائد لتحويل منظومة التعليم مختلف عن كليهما. وفي ظن كاتب هذه الورقة أن العنصر القائد هو فكرة المدرسة ودورها في المجتمع. ولكن قبل عرض هذه النقطة، من الضروري مغادرة تفاصيل البنية الداخلية لمنظومة التعليم، حتى نبقى في الإطار العام لنطرح سؤال واضح وهو: ما هي المشكلات او المعضلات التي تواجهها منظومة التعليم الآن، وما هي المخاطر المستقبلية؟ فالإجابة على هذا السؤال هي التي تحررنا من التعامل مع حالة افتراضية، وتقدم فرصة للتوصل إلى حلول عملية ومؤسسية

لمشكلات ومعضلات موضوعية تواجه منظومة التعليم

الفكرة القائدة

سلسلة الأسئلة تمتد من البحث عن المشكلات، إلى البحث عن الحلول تفضي بنا إلى سؤال البحث الهدف الجديد الذي يجب إعادة تصميم المنظومة لخدمته او لتحقيقه. فالقول بأن الأهداف باقية كما هي (تجسير الفجوة بين ضفتين مستقرتين- المجتمع والمعرفة)، والتمسك بهذا التصور، يفضي إلى أن المطلوب مجرد تعديلات طفيفة للمنظومة، لا تتجاوز الصيانة، وربما الزيادة في الحجم وفي الموارد (زيادة المعلمين وزيادة المدارس ووووو). ولكن إذا تغير الهدف، نحن بحاجة إلى منظومة جديدة

فالحقيقة الموضوعية أن تحول الأهداف يتطلب تعديل المنظومات بشكل بنيوي. والانتقال من منظومة إلى أخرى يتطلب إحداث قطيعة مع المنظومات القديمة. ولا يمكن بزيادة حجم وفاعلية المنظومات القديمة التوصل إلى كفاءة منظومة جديدة. فنحن نتحدث عن قدرات، وهذه جوهرها (طاقة في وحدة الزمن). فمثلاً لا يمكن بوضع عشرة آلاف عربة تجرها البغال، أن نحصل على كفاءة تعادل القطار. ولنتذكر أن القطار، قام على أساس فكرة استبدال القوة القائدة لمنظومة النقل: من البغل إلى الآلة البخارية. ولكن بقيت العربة وتطورت خصائصها وحجمها، ونوعية عجلاتها، لتنسجم مع المصدر الجديد للطاقة التي تحركها

والفكرة القائدة، في مجال التحول من التعليم إلى التعلم، متعلقة بالمدرسة وعلاقتها بالمجتمع المحلي. فحسب منظومة التعليم، المدرسة مجرد ماكينة أو مصنع لتشكيل الموارد البشرية حسب نموذج محدد. ولكن الآن النموذج أصبح غير واضح. فكيف سنبني مصنع ينتج سلعة لا نعرف مواصفاتها وخصائها؟
حين كانت المدرسة مصنع لتشكيل الموارد البشرية، كانت هناك ضرورة لأن تدار عملية التعليم بشكل متعالي على المجتمع المحلي. أي أن المدرسة كان لها موقع يبدو أنه أكثر “رقياً” (عنوان للحداثة التي يصبوا إليها الجميع)

وذلك لتحصين المدرسة بصورة وانطباع، يعززان تسليم الأفراد والمجتمعات المحلية لها ولإملاءاتها المعرفية. ولنتذكر أن المحرك الفاعل للنشاط والفاعلية والانتاجية (المعرفية) في منظومة التعليم هي المدرسة. فلو أردنا أن نفكك منظومة التعليم، ونبحث عن المحرك المركزي لهذه المنظومة، فإنه المدرسة التي تؤدي في المجتمع المحلي. فقد كانت الإدارات والوزارات (ووسائل وأدوات السيطرة والتوجيه) وكل ما يلحقها ويرافقها من هيلمان ومظاهر سلطة، لتعزيز فاعلية المدرسة في المجتمع المحلي، ومن أجل ضمان قيام المدرسة بدورها ووظيفتها التاريخية المطلوبة منها. فكانت المدرسة تحظى بغطاء سلطوي، لتعزيزها في مواجهة المجتمع المحلي. كما أنها كانت تحت رقابة مركزية دائمة لضمان قيامها بوظيفتها وهي: تقديم معرفة محددة للأجيال القادمة، وإلزام الأجيال على اكتساب هذه المعرفة “وتعلمها”

التفكك الذي حصل، صاحب موقع المدرسة في المجتمع المحلي. فهي وإن ما زالت تحاول أن تبقى مفارقة ومتعالية على المجتمع المحلي، ولكنها فقدت مبررات هذا التعالي وشرعيته. فلم تعد المدرسة العنوان الوحيد للمعرفة الأرقى والصحيحة، ولم تعد الجسر نحو الحداثة. ففي العديد من المجتمعات المحلية، هناك من هم أكثر معرفة وأكثر خبرة من كل جسم الهيئة التعليمية في المدرسة التي تعلم أبناءهم. يضاف إلى ذلك تراكم الأخطاء، والتراجع الملحوظ في الأداء

من جهة أخرى، فإن تمويل المدرسة بالطريقة السابقة كان ضرورة، حيث كانت المجتمعات تعاني من الفقر، ولكنه لم يعد ممكناً مالياً واقتصادياً. إذ بالرغم من مساهمات بعض المجتمعات المحلية ببناء مدارس بدائية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بقيت الحكومة المركزية والموازنة العامة للدولة، تتحمل عبء بناء وتشغيل المدارس. والآن الاستمرار بذات النموذج يعاني من مأزقين: الاول المأزق الناشيئ عن تناقص القيمة الحدية لأستثمارات وموارد الحكومة المركزية في مجال التعليم. والثاني زيادة الطلب على التعليم عن الموارد المتاحة، حيث لم يعد بالإمكان تأمين ما يلزم من موارد للاستمرار بتمويل التعليم بالطريقة السابقة. يضاف إليهما أن فاعلية الإدارة المركزية لإدارة المدارس تتناقص مع زيادة عدد المدارس

ببساطة فإن المدرسة (كماكينة لتشكيل الموارد البشرية) تفرضها الدولة بسلطتها وأجهزتها المركزية على المجتمعات المحلية، لم تعد فعالة. حيث أن المقارنة البسيطة بين واقع المدارس، وبين ما هو متوفر من موارد يؤكد هذا الاستخلاص. فعلى سبيل المثال، فإن المعلومات الاحصائية تؤكد على أن عدد المعلمين إلى عدد الطلاب في الأردن قرابة معلم لكل ستة عشر طالب. وعدد الإداريين للمعلمين في الأردن، هو إداريين اثنين لكل ثلاثة معلمين، وعدد الغرف الصفية المخصصة حسب الموازنات، تكفي ليكون سقف عدد الطلاب في أي غرفة صفية لا يزيد عن 25 طالباً. ولكن المعاينات تؤكد أن منظومة التعليم الوطنية لم تعد تؤدي بشكل يوظف مواردها المتاحة بكفاءة

الخلل ليس في فكرة المدرسة، ولكن في نمط إدارتها، الذي فرض ويفرض نمط علاقتها بالمجتمع المحلي. فلا يمكن للسلطة المركزية للدولة، أن تستمر بالاعتماد على المدرسة كماكينة لتشكيل الموارد البشرية من موقع التعالي على المجتمعات المحلية. وآن الأوان للقول بأن المدرسة هي مكون للفضاء العام، وساحة للتفاعل المستمر بين الدولة والمجتمع المحلي. وتحولها من قائد إلى مكون من مكونات الفضاء العام، ضرورة لانهاء الفجوة التي تزاداد اتساعاً بين الحكومة المركزية والمجتمع المحلي

(Re-Positioning) فالانتقال من التعليم إلى التعلم، يتلخص في إعادة موضعة

المدرسة في المجتمع، وإعادة توصيف علاقة الحكومة المركزية بها. وهذا يتطلب الانتقال على مستوى المفهوم – من المدرسة (ماكينة التعليم) لإعداد الموارد البشرية لمهمات محددة، إلى جزء من الفضاء العام يقود ويوجه عملية التعلم المستمرة. ومثل هذا التحول يتضمن إعادة النظر بالتصورات التي تحتفظ بها الحكومة المركزية عن المجتمعات المحلية

ملخص عام

إن اكتساب المعرفة من أجل المستقبل، نشاط مفتوح على خيارات تنظيمية كثيرة. من جهة اخرى فإن “التعليم” من اجل مواجهة مستقبل غير واضح المعالم، مهمة مستحيلة. والبديل هو تعزيز قدرات التكيف لدى الاجيال القادمة، لاكتساب المعرفة لمواجهة مستقبلات متحولة، على كافة الصعد. والمقترح هو مواجهة المستقبل الذي يتصف بهوامش عدم يقين عالية جداً، تقتضي الانتقال من التعليم إلى التعلم. وهذا الانتقال يتحقق بمراجعة دور المدرسة وعلاقتها بالمجتمع المحلي. ولكن عنوان “التعليم من اجل المستقبل” كما اقترح الدكتور المساد، أصبح مهمة مستحيلة، وغير منسجمة مع المستقبل كما تتبدى ملامحه. بل إن الملمح الأبرز لهذا المستقبل يفرض التخلي عن فكرة التعليم كمركبة توصلنا إليه، واستبدالها بالتعلم كمركبة بديلة، لتطوير نشاط اكتساب المعرفة لمواجهة حالة عدم اليقين. مع ما يتطلبه ذلك من بروتوكولات جديدة لتنظيم كافة الانشطة المتعلقة باكتساب المعرفة عبر المدرسة

من جهة أخرى، فإن منظومة التعليم السابقة، كانت تتمثل في دفع الجيل الجديد للتعلم (واكتساب المعرفة)، او إلزامه بذلك. ولكن هذا لم يعد هو الحال. فهناك طلب متزايد على التعليم. ولم يعد التحدي هو انفاذ تعليم إلزامي لجر الناس لاكتساب معرفة يقينية، بل تلبية طلب متزايد على المعرفة، وهو ما لا يمكن تحقيقه عبر منظومات التعليم التقليدية، والتي تفوق كلفتها ما يمكن تامينه عبر الخظينة المركزية للدولة

أخيراً فإن المطلوب هو تطوير دور المدرسة حتى يصبح بالإمكان توجيه الجيل الجديد لمنهجيات جديدة في التعامل مع سيل المعرفة. فالمهمة الآن، ليس قولبة الجيل الجديد بصياغة وعيه بمعارف محددة، بل تمكينه من المهارات الضرورية لحماية نفسه من التضليل، ومواجهة حالة عدم اليقين متسلحاً بمهارات جديدة. وهذا ممكن، عبر تحويل المدرسة لفضاء يحتضن التعلم كنشاط دائم ومستمر، بمساعدة المعلمين ومساعدة المجتمعات المحلية التي تطورت إمكاناتها

أقرا المزيد

You May Also Like