أبحاث الدماغ وعلاقتها بعمليات التعلم والتفكير والإبداع

  بقلم الدكتور محمود المساد نتائج أبحاث الدماغ وعلاقتها بعمليات التعلم والتفكير والإبداع

سنعرض لهذا الموضوع الهام عبر المحاور التالية

أ. كيف نوظف نتائج أبحاث الدماغ في التعليم؟

  إن التعمق في المعرفة حول طبيعة الدماغ الذي نملكه وتكوينه وآليات عمله من جهة، والعمليات التي تحدث فيه والأعمال التي تنتج عنه تحت ما يسمى بالعقل من جهة أخرى، دليل قوي حاسم على قدرة الله، ومعجزة من المعجزات الكثيرة التي ما زالت تستعصي في الكثير من أسرارها على البشر: فقد كشفت الأبحاث العلمية أننا ما زلنا نعجز عن توظيف أكثر من 10000:1 من قدرة المعالجة المفترضة لأدمغتنا حيث قدّر المجموع الكلي الممكن لقدرة الدماغ على المعالجة بـ (10 100) تريليون جزءاً من البيانات/كل ثانية. وللتقريب فإن الرقم يفوق بكثير عدد الجسيمات المعروفة بالكون

    وللتعريف ببعض المعرفة عن الدماغ والعقل ذات الصلة بكيفية حدوث التعلّم، وأفضل شروط التعليم نسوق المعلومات والأفكار التالية

  اولا – يتراوح وزن الدماغ ما بين (1300) و (1400) غم، وهذا يساوي 2% من جسم الإنسان الراشد

 ثانيا – يستهلك الدماغ (20%) من طاقة الجسم و1/5 الأوكسجين الذي يلزم للجسم ككل، كما يحتاج من (8-12) كوباً من الماء في اليوم للعمل على النحو الأفضل. وهذا يؤشر إلى أهمية ارتباط مستويات الانتباه والتركيز والعمل الفكري بتوفير الهواء النقي الذي يحتوي على كميات أكبر من الأوكسجين. بمعنى التأشير إلى أهمية غرف الصف كمجالات للتعلم من حيث التهوية والشروط الصحية وعلاقتها بمدى تحقيق أهداف التعلّم. كما هو التأشير إلى أهمية حصة الرياضة في الهواء الطلق. وأن تتخلل البرنامج المدرسي اليومي، فضلاً عن أهمية توفر ماء الشرب وإتاحته للطلبة في أثناء الدراسة

ثالثا –  تشكل الخلايا العصبية (10%) مقارنة بالخلايا الغروية البالغة (90%) من خلايا الدماغ، ويُسند إلى الخلايا العصبية وظائف التعلم والتفكير. وللعلم
فإن الفرد الراشد يملك نصف عدد الخلايا التي يملكها طفل له من العمر سنتان وذلك بسبب فقدان الإنسان اليومي لجزء كبير من خلايا دماغه نتيجة الاحتكاك والتحليل وعدم الاستعمال . لكن لا يوجد هناك ما يبرر الخوف باعتبار أن الإنسان يملك حوالي (100) بليون خلية عصبية، ولو فقد يومياً نصف مليون خلية عصبية لبقي له ما يكفيه للعيش طيلة عمره، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن توظيف الدماغ وتشغيله يعمل على تنمية خلاـيا عصبـيــة جديدة

رابعا – الخلية العصبية القائمة بوظيفتها تعمل باستمرار على إيقاد المعلومات وإثارتها ودمجها وتوليدها، فهي مرتع فعلي للنشاط. لذلك فإن ردود الفعل العصبية القادمة من جميع الشجيرات إلى جسم الخلية في أية لحظة يحدد فيما إذا كانت الخلية تعمل أم لا. كما أن للمحور العصبي وظيفتان: توصيل المعلومات على شكل تنبيه أو إشارة كهربائية ونقل المواد الكيماوية. وقد يصل طول المحور إلى (1م) كما هو الحال في الحبل الشوكي، ولكن متوسط طول معظمها يبلغ (1 سم). وكلما كان المحور العصبي أكثر سماكة كان أسرع في توصيل الإشارات والمعلومات، وعادة ما يُغّلف النخاعين هذه المحاور ويحميها ويقلل من التداخل بين ردود فعل المحاور المجاورة. أنظر الشكل التالي

1  بقلم الدكتور محمود المساد نتائج أبحاث الدماغ وعلاقتها بعمليات التعلم والتفكير والإبداع

 خامسا – يعتبر التعلّم العمل الهام الذي تقوم به الخلايا العصبية مجتمعة، فهو يحتاج إلى تظافر مجموعات من الخلايا العصبية . ويعمل الدماغ بشكلين: إمّا أن يقوم بعمل جديد، وإمّا أن يقوم بعمل معروف لديه وسبق له تأديته. فكلما كان العمل مكررا والتدرب عليه أكثر أصبحت الممرات العصبية أكثر فاعلية والجهد المبذول من الدماغ أقل. وكلما كان العمل جديداً، كان أكثر إثارة ويستخدم أجزاء أكثر من الدماغ ولكن بكيفية أقل فاعلية. لذلك يعتبر التعلم الجديد إثارة قوية تولد الطاقة الكهربائية المفيدة بشكل أكبر بكثير من المعرفة والعمل المعروف المكرر. ثم تحول هذه المعطيات (المعلومات) إلى نبضات أو إشارات عصبية تنتقل إلى محطات الفرز والتنفيذ في السرير البصري وسط الدماغ. وفي حالة السلوك المقصود يحدث تحول متعدد الإحساس وتتكون الخريطة العصبية بسرعة في قرن آمون، ومن هناك تتوزع الإشارات إلى مناطق محددة في الدماغ. أنظر الشكل التالي

  بقلم الدكتور محمود المساد نتائج أبحاث الدماغ وعلاقتها بعمليات التعلم والتفكير والإبداع 2

سادسا – يجب أن يكون الدماغ الأيسر أكبر جسماً وأكثر نشاطاً من الدماغ الأيمن. وهذا يعني أنه يستطيع تمييز الفروق بين الأصوات المسموعة والكلمات والحروف والوقوف على التفاصيل. وعملياً فإن النمو في الشجيرات العصبية في منتصف الدماغ الأيمن يحدث ما بين الرابعة والسابعة، وفي نصف الدماغ الأيسر يحدث ما بين التاسعة والثانية عشر، ويكتمل نمو الجانبين ويصبحان عادة مستعدين لمعالجة العمليات المجردة المعقدة بحلول سن الحادية عشرة إلى الثالثة عشرة. الأمر الذي يكتمل معه نمو الجزء الرئيسي من نصفي الدماغ وهو ما نطلق عليه اسم (الجسم الجاسئ). وعندها يستطيع الدماغ نقل أربعة ملايين رسالة في الثانية عبر ما يقارب (200-300) مليون من الألياف العصبية، ويكون كذلك مستعداً لمزيد من التحديات ومزيد من النمو حتى العشرينات من العمر

 سابعا – إن سلوكياتنا اليومية تتأثر بالكيماويات العائمة في الدماغ (الأحماض الأمينية الأحادية والببتيدات). ويقدر أحــــد الباحثيــــن أن ما يزيـــد على (98%) من الاتصالات الداخلية التي تتم عبر الدماغ والجسم تتم من خلال الببتيدات وليس من خلال نقاط الناقلات العصبية. لذلك تعمل الناقلات العصبية كهواتف خلوية باتصالات محددة بينما تقوم المواد الكيماوية بالعمل بما يشبه البث من سماعة إلى مناطق واسعة من الدماغ

 ثامنايجمع الباحثون اليوم على أن الوراثة تتحكم بحوالي (30-60%) فقط من تركيب أدمغتنا، في حين أن للبيئة تأثير يتفاوت ما بين (40-70%) من هذا التركيب، وإن هذا التفاوت الكبير في التقديرات يعزى إلى السمة المبحوثة، فهناك فرق كبير بين سمة الصلع وبين سمة القيادة. لذلك للمزيد من الذكاء نحتاج المزيد من تنمية الروابط والصلات التشابكية بين خلايا الدماغ، والعمل على عدم فقدان الصلات القائمة، وهذا يكون بالإثارة والتحديات والتعلّم الجديد القائم على حل المشكلات وتوليد المعرفة وإعمال الفكر

 تاسعا – إن دماغنا يتسم بالفاعلية والتكيف الشديدين. وما يضمن بقاءنا على قيد الحياة هو تكييف البدائل وخلقها. إن غرفة الصف العادية تحد من إستراتيجياتنا التفكيرية وتحد من بدائل الإجابة، والمعلمون الذين يصرون على طرق وحيدة في التدريس وعلى جواب صحيح واحد، هم في الواقع يتجاهلون الأسباب التي حافظت على بقاء النوع البشري وعلى تطوره وتجدده. إن منهجية الاختبارات التي تقوم على الجواب الصحيح تخالف قانون التكيف في الدماغ النامي. كما تحاصره العمليات التفكيرية التي تقوم فقط على الحفظ والتكرار والتخصص الواحد. ومن جهة أُخرى يرتقي بالدماغ ويطوره وينميه البحث وراء الجديد، والاستكشاف، وسبر الأغوار، وطلاقة الأفكار والصور والأشكال، وتوليد المعرفة وتجريبها والحكم عليها

  عاشرا – معظم خلايا الدماغ تتكون في الفترة ما بين الشهرين الرابع والسابع من الحمل، إذ يحتوي دماغ الطفل حديث الولادة على أكثر من تريليون من الوصلات التي تربط بين خلايا الدماغ. وينمو الدماغ بسرعة كبيرة جداً قد تصل إلى (15) مليـــون خليــة في الدقيقــة. لذلك فإن الفرصة الأولى للاستعداد الدراسي تبدأ من الرحم وعليه فإن المخدرات والتدخين والتغذية والوراثة كلها تؤثر على الجنين. وأهم شيء للمرأة الحامل أن تعمله: تناولها الأغذية الغنية، وتجنب المنبهات والعقاقير، والخفض من التوتر. ومن جهة أخرى فإن السنوات الأربعة الأولى هي الأهم في التطور الانفعالي. فتعرض الطفل للاضطرابات والتوتر في هذا العمر المبكر يجعل دماغه مستهلكاً للجلوكوز بدلاً من استخدامه في تأدية وظائف معرفية مبكرة. وفي هذا الصدد يقول علماء الأعصاب إن خبرات وتجارب السنة الأولى التي يمر بها الفرد يمكن لها أن تغير بالكامل المسار أو الوضع الذي يأخذه في حياته. وبنفس الطريقة نتحدث عن الدماغ الحركي للطفل والدماغ البصري له وأن هذه السنوات المبكرة من عمره هامة جداً في نمو الدماغ وتطوره السليم. فعلى الطفل أن يكون كثير الحركة ويتعرض لمجموعات متنوعة من المعطيات المثيرة بما في ذلك اللون والشكل والحركة والعمق. لذلك علينا أن نستشعر خطر الجلوس الطويل خلف الحاسوب وأمام التلفزيون وعلى المقاعد وفي السيارة، كما علينا أن نتحمس لبث التعلّم المطلوب للطفل في هذه المرحلة العمرية من خلال الألعاب والمثيرات والحركة، وأن يعيش هذه الإثارة ويلمسها ويتفاعل معها

أحد عشر – إن الأشياء تظهر على شاشة التلفزيون ببعدين، حيث يقول علماء الأعصاب والمتخصصين بالإبصار في هذا المجال بأن الدماغ في أثناء نموه يحتاج إلى بعد العمق. وأن الأحداث والصور على شاشة التلفزيون تسير بسرعة وتتحدث عن أشياء مجردة ليست من بيئة الطفل، كما أن التلفزيون لا يسمح للعين بوقت للاستراحة، وهذا كله يزيد في صعوبات التعلّم. إن هذا البديل لقضاء الوقت هو الأسوأ الذي كان من الممكن للطفل أن يعيشه في النمو الحس/ حركي، ومع أقرانه يستمتع ويبني علاقات. وحتى وصلت بعض الأبحاث إلى التوصية بمنع الأطفال من مشاهدة التلفزيون دون سن الثامنة وكذلك نضيف إليه الساعات الطويلة التي أصبحت مجال الجلوس للطفل على الكمبيوتر والألعاب. لذا فإنها دعوة للآباء والأمهات والتربويين أن يُعيدوا الطفل إلى حياته الطبيعية فهي أفضل لنمو الدماغ ومهاراته اللغوية والاجتماعية والحركية

اثنا عشر – كلما كانت المفردات والأصوات التي يتعرض لها الطفل في فترة مبكرة أكثر، كان ذلك أفضل. فهي التي تشكل الدماغ، وبالذات الخريطة الإدراكية للخلايا العصبية الحساسة في القشرة الدماغية السمعية. وتعتبر الموسيقى في هذا المجال الأكثر أثراً، والأفضل من بين المثيرات التي يُميزها الطفل بسرعة وسهولة. إن حساسية الطفل للموسيقى وارتباطها في دوائر الرياضيات في الدماغ يساعد على تقديمها معاً، أو التمهيد بالموسيقى لتأسيس البنية التحتية المناسبة لتعلّم الرياضيات لاحقا. وفي هذا المجال الخصب لتنمية الدماغ تقول جين هوستن إن الفنون تثير وعي الجسم والإبداع والإحساس بالذات، ثم تقول في الحقيقة إن الطفل الذي لا يملك حرية الوصول إلى الفنون هو طفل معزول عن معظم الطرق التي بها يستطيع أن يعرف العالم. وسعياً مني للتأكيد على أهمية الفنون ودورها الهام في إثراء بيئات التعلم أسوق أيضاً ما توصّلت إليه عملية مراجعة الأبحاث العلمية، حيث أفادت أن تعليم الفنون يُيسر اكتساب اللغة، ويزيد الإبداع، ويعزز الاستعداد للقراءة، ويساعد في النمو الاجتماعي وفي التحصيل الفكري العام. كما توصّلت نتائج هذه الأبحاث إلى الدور الهام في تعزيز الاتجاهات الايجابية نحو المدرسة. فضلاً عن أن الموسيقى لغة يُمكنها أن تُحسّن قدرات الأطفال الذين لا يجيدون التعبير عن أفكارهم بالطريقة اللفظية

  ثلاثة عشر – إن التحدث إلى الأطفال بلغة الكبار من الآباء وغيرهم باستمرار يُنمّي لديهم مهارات لغوية أفضل، إضافة إلى الأهمية البالغة للقراءة للطفل ودون النظر إلى أنه فهم أم لا. ودفعهم للنظر بطريقة محببة للكلمات والأحرف ولفظها وسماع أصواتها. كل ذلك يسهم في تنمية بناء الجملة والمفردات والمعنى خاصة إذا امتلك الأطفال الخبرة الحياتية الكافية التي تتوافق بها هذه الكلمات وهذه الأصوات مع واقعها الحقيقي

أربعة عشر– إن ساعة النوم الطبيعية للمراهق (الصفوف الأساسية العليا والثانوية) تحدد وقت النوم الطبيعي له بوقت يقترب من منتصف الليل، مع وقت استيقاظ قريب من الساعة الثامنة صباحاً. وهذا ناتج عن التغيرات الهرمونية لفترة المراهقة. لهذا لا يستطيع الأطفال أن يناموا مبكرين كما يرغب أباءهم بفضل هذا التغير في كيماويات الجسم، لهذا تبين أن الأطفال الذين يستيقظون متأخرين يقدمون أداء أفضل أكاديمياً، باعتبار أن العكس يجعل الأطفال ينامون في المدرسة، وبهذا فإن المعلمين يُدرّسون لأموات متحركين. وهناك نقطة هامة في هذا المجال تتصل بالدقائق التي تسبق النوم وتعقبه، حالـــة اللانوم واللايقظـــة، الوقت الذي نسترجع به أحداث اليوم ونفكر بالأشياء التي يجب أن نعملها في اليوم التالي. إن هذا الوقت هام جداً في ربط الأحداث بطريقة حرة وتثبيتها في الذاكرة، في حين تعتبر فترة النوم العميقة الفترة الهامة لتجديد وظائف الجسم الطبيعية، حيث تفرز الغدة النخامية المزيد من الهرمونات الخاصة بالنمو والإصلاح إلى الدم لإعادة بناء الأنسجة وانتظام عمل جهاز المناعة. إننا بحاجة ماسة إلى النوم العميق وإلى حالة الشفق التي تسبق النوم وتعقبه. ومن هذا المنطق ونتيجة لهذه الأبحاث ندعو إلى التفكير بتأخير وقت بدء الدراسة لطلبة الصفوف من السابع وحتى الثاني عشر بساعة على الأقل عن الطلبة الصغار

  خمسة عشر – إن العمل على إثراء بيئات التعلّم يبدأ بإزالة التهديدات والسلبيات منها. علينا أن نزيل الإحراج والاتهام والسخرية والاستقواء والمواعيد غير الواقعية منها أيضاً قبل أن نتوجه إلى الإثراء الذي يركز على الإثارة والتحدي والتغذية الراجعة. حيث من شأنها جميعاً الوصول بنا إلى قشرة دماغية أسمك، وعلى مزيد من الشجيرات العصبية ومن النتوءات في أجسام الخلايا. وهذا يعني أن الخلايا العصبية في الدماغ ستتواصل بشكل أفضل، ويكون هناك المزيد من خلايا الدعم

ب. ماذا تقول نتائج أبحاث الدماغ عن علاقة الانتباه بالتعليم؟

إن آلية الانتباه المتصلة بجهازنا البصري تعمل باتجاهين، حيث تنساب المعلومات من أعيننا إلى المهاد البصري في الدماغ (الثلاموس)، ثم نحو القشرة الدماغية البصرية، ثم ترتد كتغذية راجعة إلى أعيننا لنركز الاهتمام على شيء معين. لكن هذه التغذية الراجعة من القشرة الدماغية تكون مضخمة لأكثر من ست مرات من المُعطى الأصلي. وهذا الحجم من التغذية الراجعة يثير خلايا عصبية مختارة ومحددة على طول المسارات البصرية لتقلل من نشاطها. إن وظيفة الانتباه مزدوجة، فهي تقوم باستثارة الكثير من الخلايا العصبية الجديدة، وبنفس الوقت تكبت معلومات غير مهمة. فالدماغ يعمل على تصحيح الصور القادمة ليساعدك على أن تبقى منتبهاً، وما تنتبه إليه هو عمل توازني بين البناء (استقبال المعلومات وتحليلها وتوليد المعرفة…. الخ)، وصيانة التغذية الراجعة للمنبهات بالعمل على إغلاق الباب أمام أية معطيات ليست ذات صلة.  إن نجاح تعلم الطلبة يقوم على إتقانهم لمهارة ” الموالفة “. بمعنى التدّرب على كيفية تركيز الانتباه على الهدف، تماماً مثل الموالفة في الراديو بين طول الموجة وموقع المحطة لتكون مركزة على المحطة المرغوبة. ومن جهة أخرى فإن المعلم المبدع يستفيد ويتماشى مع طبيعة تكوين الدماغ وآليات عمله في تعليمه للطلبة وإتاحة الفرصة لهم للتعلم، ولتوضيح هذا الأمر نسوق الأمثلة الآتية

 اولا – الموازنة بين محدودية فترات الانتباه والتي لا تزيد في أفضل الأحوال على عشرة دقائق وبين آلية التعامل مع المعلومات والاستفادة منها. إن الكثير مما نتعلمه لا يمكن معالجته على نحو شعوري لأنه يحدث بسرعة كبيرة جداً، لذلك فنحن نحتاج إلى وقت لمعالجته. وكذلك فإن العمل على تكوين معنى جديد لمضمون التعلم يحتاج الى وقت داخلي، إي أن المعنى الجديد يتم توليده دائماً من الداخل وليس من الخارج، وكل تجربة تعليمية جديدة تحتاج إلى وقت لترسخ وتنطبع في الذاكرة. وهذا يستدعي من المعلم أن يؤكد على أهمية وقت التعلّم المركز الذي يتبعه أنشطة استرخائية تأملية، باعتبار أن التعلّم المتتابع يفسد عملية التذكر

 ثانيا – إن سرعة نقل الصور بالعصب البصري والتي تقدّر بعشرات الملايين بت/ثانية، يصعب معالجتها بشكل واعٍ وشعوري، لذلك فإن فهمها ومواصلة فهمها جميعاً يحتاج إلى أن يتوجه الطالب للداخل ويتخلى عن الانتباه الخارجي.  لذلك فالعديد من أفكارنا المبدعة تأتي على نحو غير متوقع وبعد فترة من الحضانة للأفكار الخام التي ينقصها الربط والتحليل والوضوح

 ثالثا – إن فهم حالات تموج الدماغ (النشاط الكهربائي) والتكيف معها في أثناء تقديم التعليم يفيد كثيراً في رفع سوية التعلّم والاستفادة منه. فبعد الوقت الذي تكون به حالة التموج (بيتا) في نشاط عالٍ يَعمُر بالنقاش والتمارين والمشاريع المعقدة والتنافس، وتكون به سرعة النشاط الكهربائي (12-25) دورة في الثانية، فإنها تهبط إلى حالة (الفا) حيث يكون الانتباه والنشاط المستمر في القراءة والكتابة والمشاهدة وحل المسائل قد انخفض إلى سرعة تصل (7-12) دورة في الثانية. ثم نجدها في حالة (ثيتا) التي تدور حول القابلية الشديدة لمغالبة النعاس والتأمل ووقت المعالجة، حيث تكون سرعة الدورة ما بين (4-7) دورة في الثانية. وأخيراً تصل في حالة (دلتا) إلى اللاوعي والنوم العميق والغياب عن العالم حيث تصل سرعة النشاط الكهربائي إلى (4-5) دورة في الثانية (انظر الشكل التالي. لذا على المعلمين أن يسمحوا للطلبة بإجراء المناقشات على مستوى المجموعات الصغيرة بعد تقديمهم للمادة الجديدة، وذلك لتصنيفها وتوليد الأسئلة عليها وطرح السيناريوهات حولها، باعتبار أن نقاط التشابك تقوى عندما تعطى وقتاً لترسيخ التشابكات العصبية ، وبنفس الوقت العمل على تغييب الاستجابة لمنبهات أخرى منافسة . وبهذا تعتبر فترات المعالجة الهادفة كفترات حضانة للتعلم، فهي تساعد على ترسيخه ومعالجته وتوليد المعرفة الجديدة منه. وعملياً لا يمكن لعملية الربط والتوحيد وتوليد المعرفة أن تحدث إلا في أثناء وقت الركود، والاستراحة والوقت المستقطع للتأمل: كأنشطة الكتابة والمناقشة ضمن المجموعات الصغيرة. ويعود تقدير وقت الاستراحة والتأمل إلى صعوبة المادة وخلفية المتعلم

  بقلم الدكتور محمود المساد نتائج أبحاث الدماغ وعلاقتها بعمليات التعلم والتفكير والإبداع 3

 رابعا – تبين أن هناك علاقة وراثية بين سلوكيات الفرد في السعي إلى الجديد أو عدم الانتباه وبين جين موروث محدد مستقبل لمادة الدوبامين. علماً بأن الدوبامين هو ناقل عصبي معروف بأنه ينظم الانفعالات. والمعنى أن بعض الطلبة سيكونون خارج السيطرة على سلوكياتهم النزقة والمتوترة بفعل هذه الجينات، أي أن مرد سلوكهم النزق هذا يعود إلى جينات موروثة، وليس إلى قصور في التربية. وهذا يدفع بالمعلمين إلى معالجة سلوكهم ببساطة وبمزيد من الاستراتيجيات التعلّمية النشطة. ويعزو البعض من العلماء خرافة الاضطراب في الانتباه إلى عدة أسباب أبرزها عدم التوازن بين أساليب التعليم وأساليب التعلّم، وسوء التغذية، والقصور التربوي من مثل: اكتظاظ الصفوف، وصعوبات الضبط، وأسلوب المعلم في جذب الانتباه، وضعف الانضباط الذاتي….. الخ

 خامسا – تغيير المكان هو أحد أسهل الطرق لجذب الانتباه، لأن جهاز الانتباه الخلفي لأدمغتنا متخصص بالاستجابة للمكان وليس لتلميحات أخرى مثل اللون أو الشكل أو المظهر أو الحركة. فيمكن للمعلمين أن يتنقلوا إلى مؤخرة الصف أو إلى أحد جوانبها، ومن الممكن تبديل غرفة الصف مع معلم آخر أحياناً، وتعتبر الرحلات الميدانية أكبر تغيير في المكان وجدير بالتوظيف والتنظيم

 سادسا – لمزيد من جذب الانتباه عليك كمعلم أن تستفيد من دور المعزوفات الموسيقية والأناشيد والتمثيل في تهدئة الطلبة وجذب انتباههم، والعمل على تنفيذ الفعاليات الصّفية من خلال أشكال مختلفة (فردي، زمري، مجموعات)، وأن تبدّل في صوتك من حيث الدرجة واللهجة والسرعة، وأن توظف بكفاءة لغة الجسد، ثم جدد ماأمكنك ذلك بالأنشطة والقصص والقياس والمجازات التي تصلح لبدء الحصة ونهايتها. واعمل على ذلك بتوازن وتجدد لا يجعل الطلبة أميل للاستخفاف بالحصة، وبنفس الوقت اعمل على إتاحة الفرص للطلبة لتقديم العروض وأخذ أدوارهم في التعلّم وفرصهم في التأمل

أقرا المزيد

You May Also Like