التعليم عن قرب ليس كله خيرًا والتعليم عن بعُد ليس كله شرًا د. ذوقان عبيدات

التعليم عن قرب ليس كله خيرًا والتعليم عن بعُد ليس كله شرًا د. ذوقان عبيدات

التعليم عن قرب ليس كله خيرًا

والتعليم عن بعُد ليس كله شرًا!!

د. ذوقان عبيدات

فأي التعليمين نريد؟ حين كان التعليم المباشر أساسًا قبل كورنا، قلنا فيه ما لم يقله مالك في الخمرة، وحين لجأنا مضطرين للتعليم عن بُعد، قال كثيرون عنه ما لم يقله شيخ في من أفطر في رمضان!!

قلنا عن التعليم المباشر إنه يعاني من مشكلات عديدة! وهذا ليس عندنا فقط. ففي فنلندا أسموها فيروسات التعليم، وعندنا وقبل خمسة وأربعين عامًا قلنا: اللاءات الست.

فما هي فيروسات فلنلندا: وما هي لاءاتنا؟

(1)

فيروسات التعليم الست في العالم

تميزت الأنظمة التعليمية العالمية بانتسابها إلى العصر الصناعي، فالمدرسة مصنع له مدخلات وعمليات ومخرجات، والمنهاج مصنع، والتدريس مصنع، فإذا أردنا تحسين المخرجات فعلينا تحسين المدخلات وتحسين العمليات، وهكذا انتقل الاهتمام من المخرجات إلى العمليات والمدخلات، فصار الاهتمام بتحسين البناء، وتأهيل المعلمين وتدريبهم دون أن ينعكس ذلك على تحسين المخرجات!! أرجو أن لا يستغرب أحد هذا الكلام، فاختبارات TIMSS الدولية واختبارات Pizza أوضحت ضعف الصلة بين المخرجات والمدخلات والعمليات، ومن أمثلة ذلك:

لم تُشر النتائج إلى أن خبرات المعلمين تنعكس على أداء الطلبة.

وكذلك لم تنعكس مؤهلات المعلمين إيجابيًّا على الطلبة.

ولم تنعكس الواجبات إيجابًا على أداء الطلبة.

بل ولم تنعكس ساعات التدريس إيجابيًّا أيضًا.

ومع ذلك لا زالت أنظمة التعليم المباشر تركز وتصرف الأموال لتحسين المدخلات دون أولويات وهي تعرف مسبقًا ضعف تأثيرها، وأكثر من ذلك لم تُشر الدراسات الدولية إلى أن زيادة الإنفاق على التعليم يرتبط إيجابًا بتحسين الإنتاج.

إذن! إن فيروس التعليم الأول هو أنننا نقدم العلاج الخاطئ ونحن نعرف مسبقًا عدم جدواه، ولذلك أقول بأمانة:

لا الإنفاق، ولا مؤهلات المعلمين، ولا حجم الوجبات، ولا حجم الطلبة في الصف هي عوامل مؤثرة بشكل مباشر أو قوي على التعليم، بل هناك ما يشير إلى أن أداء الطلبة والمعلمين غير المؤهلين لا يختلف عن أداء الطلبة الذين يدرسون مع معلمين مؤهلين، وهكذا مما يسمح لي بالقول:

إن أداء الطلبة الذين يدرسون مع معلمين غير مختصين في العلوم والرياضيات لا تقل عن أداء زملائهم ممن يتفاعلون مع معلمين مختصين!!

ملاحظة: هذا ليس تخريفًا، ولا رأيًّا حاقدًا. بل حقائق علمية أثبتتها الاختبارات الدولية على مدى خمسة وعشرين عامًا.

أما القضية الثانية التي تشكل وباءً تربويًّا وليس مجرد فيروسات فهي انعزال المعلمين عن التكنولوجيا.

فمنذ دخول أول تكنولوجيا: الراديو، وقف المعلمين ضد استخدامه وكذلك التلفزيون التربوي والبروجكتور، وتمسكوا بأدواتهم القديمة، لم يتغيّر منهاج ولا كتاب إلّا شكلًا، ومن يتابع ما يقرأه الطلبة عندنا وعند غيرنا يوضح نتمسك بالقديم من الأدوات!!

والآن! بعد قوة التكنولوجيا، هل ما زال بإمكان أحد أن يقف ضد استخدامها في التعليم؟ التكنولوجيا في التعليم وغيره لن تستأذن أحدًا، سيتغيّر كل شيء.

ومن فيروسات التعليم ثالثًا، هي السمة التلقينية للتعليم والمتمثلة بنقل الحقائق والمعلومات حيث كان المنهاج مجموعة من المعلومات والحقائق التي يرى الكبار أنها ضرورية للأجيال القادمة، وكان المطلوب حفظ المعلومات ثم نسيانها بعد الامتحانات، ولذلك فإن القضاء على هذا الفيروس سيسمح لنا بالانتقال إلى عمليات التحليل والنقد وإنتاج المعلومات والمعارف ذات الصلة بحاجات الطلبة.

وقد سبق وأن نشرت مقالة في السبعينات بعنوان: ( اللاءات الست في التعليم)، وهي:

اولا – لا للرقابة بكل أشكالها.

ثانيا – لا للواجبات البيتية.

ثالثا – لا للرسوب في الصف.

رابعا – لا للمناهج الطويلة.

خامسا – لا للتعليم المنتهي.

سادسا – لا لتعلم المعلومات.

وسأحاول تفسير كل من هذه اللاءات.

لا للرقابة بأشكالها:

والرقابة هي رقابة الوزارة على الميدان التربوي، ورقابة كل مستوى على المستوى الأدنى، لقد ساد التفتيش مرحلة طويلة في تاريخ التعليم، وانتهى رسميًا وشكليّا سنة 1962 بعد مؤتمر أريحا التربوي، ولكن قيم التفتيش وتسلسل السلطة ما زالت تحكم النظام التربوي.

فالطالب يخضع رقابة المعلم والأهل والقوانين، والمعلم يخضع لرقابة الأهل والمشرف التربوي والمدير، وهكذا، المطلوب بناء الرقابة الذاتية والانضباط بدلا من عمليات التفتيش التي تؤدي إلى الجمود.

لا للواجبات البيتية.

فالواجبات تتناقص مع احترام طبيعة الطالب كإنسان وتركز على دوره كطالب طوال وقت المدرسة والبيت. ويرى المربون أن من حق الطالب أن يستمتع بوقته في المنزل وأن يُنمي مهارات لم تنجح المدرسة في تنميتها، إضافة إلى أن الواجبات وخاصة الطويلة منها لا تأثير لها على تحسن تحصيل الطالب فالمطلوب إنهاء معاناة الطالب ومعاناة أهله وحتى المعلمين الذين لا يجدون وقتًا كافيّا للنظر في أداء الطلبة للواجبات.

لا للرسوب:

من حق كل طالب أن يتعلم مع أبناء جيله، وأن يتلقى التعليم الذي يناسب مستواه، وبالأسلوب الذي يناسب ذكاءاته، ولا يجوز أن يتحمل مسؤولية عدم حصوله على التعليم الجيد، فالمدرسة مسؤولة، وربما الأهل ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك الظروف الصحية والعقلية.

إصافة إلى ذلك، فقد يكون الامتحان غير قادر على قياس إمكانات الطالب ومهاراته الحياتية، ولا يجوز الحكم عليه من خلال اختبار تحصيلي، ربما كان الطالب لاعبًا أو فنانًا أو مبدعًاإلخ، فمن حقه أن يرتقي دون رسوب.

لا للمناهج الطويلة:

يزداد حجم المناهج والكتب المدرسية نتيجة رغبة المختصين في المواد الدراسية بإقحام مادة دراسية تفصيلية بغض النظر عن صلاحيتها وحاجة الطلبة إليها، وبذلك صارت عبئًا على الطلبة والمعلمين وحتى على متعة الدراسة.

هذه المشكلة تعاني منها معظم الأنظمة التعليمية، فالمطلوب هو بناء مناهج وكتب رشيقة ترتبط بحاجات الطلبة مباشرة، وبالمهارات الحياتية ذات الصلة، وهذا بتطلب إبعاد الكتب عن التفاصيل والمعلومات والحقائق ليركز على المفاهيم الأساسية والمهارات العقلية والمعرفية الأخرى مثل البحث والتحليل والتفكير الناقد والإبداع.

لا للتعلم المهني:

المقصود بالتعلم المهني وذلك التعليم الذي يبدأ بالصف وينتهي بالصف بعد تقديم الامتحان، ولعلّ الجميع شاهد ظاهرة رمي الكتب وتمزيقها بعد تقديمهم الامتحان.

المطلوب تعلّم مستمر، يبدأ ولا ينتهي، وهذا يتطلب أن تركز المناهج والحياة المدرسية على:

مهارات التعلم المستمر كالبحث والتجريب والتأمل.

مهارات إدارة المعرفة: إنتاجًا ونشرًا وتوثيقًا.

لا لتعلم المعلومات:

يركز التعليم الحالي على نقل الحقائق والمعلومات وتقديمها إلى الطلبة بشكل منجز نهائي ثبت صحته وغير قابل للنقاش، فتحول التعليم إلى حفظ المعلومات وتقديسها والاكتفاء بها دون زيادة أو نقص، والمطلوب هو الانتقال من تعليم المعلومات والحقائق إلى إنتاج المعارف الذي يحتاج لها الطلبة، وبدلًا من التركيز على المعلومات أو الحقائق علينا التركيز على المفاهيم، فالطلبة بحاجة لمعرفة مفاهيم مثل الديمقراطية والعدالة والحقوق والأرقام والمعادلات، وليس إلى مجرد معلومات وحقائق عنها.

(2)

التعليم الوجاهي والتعليم عن بُعد

هناك مزايا للتعليم المباشر لا ينكرها أحد، وهناك فيروسات فيه قد يتفق عليها كثيرون، فالتعليم المباشر أنتج تقاليد ليست كلها خيرًا، وهناك مزايا للتعليم عن بُعد، قد ينكرها بعضنا بسبب ضعف التجربة الأولى، ولكن التعليم عن بُعد كالعمل عن بُعد هو لغة المستقبل وعلينا أ ن نستعد لها، فالموازنة المطلوبة:

كيف ندخل مزايا التعليم عن بُعد في التعليم المباشر؟

كيف تمنع فيروسات التعليم المباشر من السيطرة على التعليم عن بُعد؟

وبرأيي:

مطلوب تعليم مباشر جزئي ثلاثة أيام، تقدم فيها كل ما يحتاج إليه الطلبة من تفاعلات وعلاقات وصلات مباشرة ويخصص لها الوقت الباقييومانللتعلم الذاتي والتعلم عن بُعد والواجبات والمشروعات التي تهم الطلبة.

مطلوب توفير الإمكانات الفنية والبنية التكنولوجية اللازمة لممارسة أنشطة التعلم عن بُعد.

مطلوب نشر ثقافة التعلم عن بُعد وقيمة في المجتمع، والأسر، وحتى داخل المدارس.

بناء قدرات مختلف الهيئات ذات الصلة (معلمين، أهالي، طلبة).

وما هو أكثر أهمية من هذا كله هو الإشارة إلى التغيرات الإيجابية التي قدمها التعلم عن بُعد، وأحددها بما يأتي:

حرية الطلبة في اختيار بعضالمواعيد والتوقيتات التي تمكنهم من التعلم في الأوقات المناسبة لهم، وهذا يعني توفير مواد للتعلم غير المتزامن إضافة إلى التعلم المتزامن.

حرية الطلبة في تنظيم أوقاتهم بما يسمح لهم بالحوار والتواصل والاستمتاع والتحرك وفق خططهم لإدارة وقتهم.

حرية التعلم –بالمساندةوهي العمل مع آخرين، فالأم قامت بدور مهم في تعليم أبنائها، كما تلقى الطلبة دعمًا من آخرين قادرين على مساندتهم! مع الأخذ بعين الاعتبار أن لا يتأثر اعتماد الطالب على ذاته بالدرجة الأولى.

حرية للطالب في المشاركة بوضع القوانين الناظمة لعمله في الصف بما يحافظ على بيئة تعلم مناسبة لا تحيرها المعلم وحده.

وأخيرًا – المحافظة على بهجة التعلم من خلال استمتاع الطالب بتجربته دون تدخل أو تنمر من معلم أو غيره.

وأكرر، المستقبل القريب هو تعلم مدمج، والمستقبل البعيد هو تعلم عن بُعد.

انضم إلينا على صفحة فيسبوك

You May Also Like