تعليم برسم البيع بقلم د، يحيى أحمد القبالي

تعليم برسم البيع

تعليم برسم البيع

بقلم : د، يحيى أحمد القبالي

إنّ المتتبع لأحوال التعليم بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص يتبادر إلى ذهنه السؤال المركّب التالي : هل تعاني وزارة التعليم العالي من حالة فصام في الشخصية جرّاء ضمها مرة إلى وزارة التربية والتعليم وانفصالها مرة أخرى، وحالة من الضبابية تُلقي بظلالها على مخرجات التعّليم الجامعي؟ فليس من المنطق بمكان أن يتمكن وزير واحد إدارة وزارتين بهذا الحجم في الوقت نفسه، فأعباء وزارة التربية والتعليم ينوء بحملها الوزير منفردًا، فهي تضم أكثر من مليون طالب، ومستعمرات من المدارس، وجيش من الإداريين…ومما يزيد الطين بلة أنّ المدرسة لم تعُد هي المؤسسة الوحيدة التي تهدف إلى تشكيل رؤية الفرد الواقعية بالرغم أنّها تحتضن الفرد لدرجة الاستعباد بطريقة مدروسة ومنظّمة، إلاّ أنّ متغيرات كثيرة طرأت على هذا الدّور المنوط بها، لقد سيطرت الدّول في بداياتها على التّعليم تحت غطاء دعوات بريئة ومبررة: محو الأمية وغيرها والهدف المعلن هو ضم أكبر عدد ممكن من الأفراد إلى حضن المدارس والجامعات، لعلمها الأكيد أنّ من يملك التعليم يملك السياسة، وبعد فترة وجيزة تفلّت التعليم من يد الدّول بعد أن كان حقاً مقدسًا ومصانّا للطبقة الغنية، فنشأ عن ذلك ثورة الفقراء والمطالبة بالمساواة ، فاضطرت الحكومات قصرًا إلى اختراع المنح الدراسية بكافة ألوان قوس قزح رافعة يافطة عريضة بعنوان🙁 المساواة، الفرص المتكافئة) فكانت كمن يُخفي نفسه خلف إبهامه، فالهدف غير المعلن من هذه المنح هو ضمان الولاء المطلق للدولة ، فاتسعت دائرة سيطرتها على كلّ مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية باستخدام أسلوب الأمن الناعم.

لقد جعلت الدّول من التعليم أفيونًا لشعوبها، فآلاف الخريجين الذين ينتظرون التعيين على الأرصفة أو المقاهي يتطلعون إلى اكمال تعليمهم العالي ولو بالتمّني، فقد جعلت منهم دولهم مدمني تعلّم بالرغم من عدم وجود افق للاستفادة من شهاداتهم( غزارة في الانتاج وسوء في التوزيع) فسعي الخرّيج للتوظيف هو الغاية وراء جميع الانتماءات للمؤسسات التعليمية، ولقد قامت الحكومات بتجميل صورة الوظيفة الحكومية بإلحاقها بنظام التقاعد مما زاد من لهاث طالبي الوظائف الحكومية وأصبحت الوظيفة أكبر همهم غاية رغبتهم

لقد كانت المدارس والجامعات تشكّل ثراءً أكاديميًا دون أن تقترن بالرفاهية المادية، و تم نقل مسؤولية تطوير الذات إلى المؤسسة التعليميّة ، فلم يعد الفرد يتعلّم بطريقة التجربة والخطأ بل ضمن تحديد للنمو المعرفي الذاتي للأفراد بأسلوب مخطّط له مسبقًا ، فقد جعل التّعليم كلّ شيءٍ قابلًا للقياس، وحتى وإن لم تكن مخرجات التعليم المدرسي والجامعي غير مُرضية فإنّ الارتفاع الظاهري لتكاليف التعليم تزيد قيمة تقدير الطّالب لنفسه وفي سوق العمل ، ولحفز الطالب للبقاء في المدرسة والجامعة يتم الانفاق وبسخاء على المرافق : الملاعب، والمسابح، والمسارحوعلى التعليم الدّولي، والتفنن بتقليعات جديدة لانضمام زبائن جدد إلى تلك المدرسة أو تلك، فنجد كثيرًا من المدارس ترفع الشعارات البرّاقة، أو تُضمّن اسمها بمفاهيم ومصطلحات التفوق والإبداع وهم لا يدركون أو يفرقون بين هذه المفاهيم والمصطلحات وليس لهم علاقة لا من بعيد أو قريب بالإبداع، مجرّد تدجين للطلبة بقوالب معدّة مسبقًا باختلافات غير جوهرية تميزها عن المدارس أو الجامعات الأخرى، فلم تعد المعرفة غاية بذاتها والحقيقة قيمة أصيلة، والتركيز على تاريخ الفكر الانساني في إطار تقليدي، بل قطرية مستقلة بذاتها، ولم تعد المدرسة تهتم بميول الطالب إلى الحكمة والفضيلة بل إلى عولمة الطالب وتعددية فكره، فالقيم والعادات والتقاليد متغيرة حسب المرحلة التاريخية، ولم تعد حقوق المعلّم تنبع من عملية تنوير فوقية تمثّل الحكمة والفضيلة، أو يُعتبر نموذجًا للتميز الفكري وحاملاً لواء الحقيقة، وأصبح المنهاج الدراسي شبه الزامي محدد الفكر والإطار، والمبدأ العام لها أن يتلاءم الطلبة مع المدرسة أو الجامعة، لا أن تتلاءم المدرسة أو الجامعة مع الطالب، ولقد ساهمت التصنيفات العالمية للجامعات من الدعاية الجاذبة وساهمت في رفع الاقساط الجامعية للجامعات التي حالفها الحظ على سلم التصنيف. مما جعل من التعليم دون أدنى شكمجالاً تجاريًا بامتياز.

وقد يظن البعض أنّ التعليم الجامعي امتدادًا للتعليم المدرسي، فهذا محض افتراء، فالاختلافات بينهما لا تُبقي للتقاطعات طريقا لا شكلاً ولا مضمونًا، فعالم التّعليم العالي: تنافس غير شريف، ومستنقع يتطلب مستوى عالٍ من المهارة في السباحة عكس التيار، ومطحنة تستنزف دخل الأسرة بكامله، ووعود بوظيفة تكافئ ما تم بذله من جهد، وفناء أجمل سنوات العمر، والأدهى والأمر أنّ الحكومات لم تدع لطلبتها خيارًا آخر غير الوظيفة الحكومية يضمن لهم العيش الكريم.

وضمن مقارنة بسيطة بين الإمكانيات التي يمكن أن توفرها الحكومة لمدارسها وجامعاتها وبين التّعليم الخاص، فلن تكون المقارنة عادلة بتاتًا فالتعليم في المدراس الخاصة والجامعات يمتلك دعمًا غير محدود من خلال أقساط الطلبة المرتفعة وتهافت أفراد المجتمع على رفاهية التعليم والراحة النفسية المطلقة للطالب.

لقد ساهم التعليم الخاص بتخفيف العبء عن الحكومات، ولكنه ساهم في الوقت نفسه بإيجاد قططٍ سمينةٍ ذات شهية مفتوحة، لا يجد الشبع إلى معدتها سبيلاً، فالاستثمار في التّعليم يتطلب منافسة شديدة وإمكانيات مرتفعة التكلفة تشكّل سدًا منيعًا في وجه من يفكّر في الاستثمار ضمن مجال التّعليم( مدارس ، وجامعات ) إلاّ من هم على شاكلتهم حصرًا.

فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها: خصخصة التعليم: مدارس وجامعات؟

إقرأ المزيد لمقالات التربويون العرب

You May Also Like