بيداغوجيا التنوير وشوفينيّة المعرفة بقلم: د. يحيى أحمد القبالي

بقلم الدكتور يحيى القبالي المدير الّذي نريد

بيداغوجيا التنوير وشوفينيّة المعرفة

بقلم: د. يحيى أحمد القبالي

لا تختلف الآراء بأنّ وظيفة المدرسة غرس القيم وإعداد المواطن الصالح لنفسه ووطنه، بالإضافة إلى نقل المعرفة من جيل إلى آخر، ويمكن جمع كلّ ذلك تحت مفهوم التنوير، إلاّ أنّه لا ينبغي تجاهل أنّ المدرسة لم تعُد المصدر الوحيد للثقافة وللمعرفة، ولم تعُد أيضًا منبرًا ثقافيًا وحيدًا، بل مجرّد نجم من بين المجرّات، فقد أصبحت المعرفة متاحة على قارعة الحواسيب.

جاء في التقرير الأول ل“منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية” لسنة( 2000م) طُرح سؤال لاثني عشر (12 بلدًا) أوروبيًا حول العشر كفايات (مفاتيح) يُعتقد أنّها أساسيّة لتطوير التعليم والحاجات الأساسية للمتعلّم، تمّ التذكير بأن ّالتربية تتأسس على أربع ركائز: تعلّم كيف تعرف” و”تعلّم كيف تفعل” و”تعلّم كيف تعيش” و” تعلّم كيف تكون”. وخلص التقرير أن ّالكفايات الثلاث الأولى تُرجمت في صيغة إصلاحات تربويّة ونصوص تشريعية بينما الركيزة الرابعة “تعلّم كيف تكون” وهي المعبّرة عن الجهد التنويري، تم التغافل عنها أو لم تستطع مجاراة بقية الكفايات، ورغم أنّه منذ تقرير” تعلّم كيف تكون” حُدّد بدقة أهمية تأكيد بُعد الحياة التربوية المتضمنة التنمية الكاملة (التنوير) وهي الوظيفة المتكاملة للبيداغوجيا .

وتعرّف البيداغوجيا من منظور أكاديمي : بأنّها طرائق وأساليب التعليم وممارستها من قبل المعلمين أصحاب الاختصاص، والعلاقة القائمة بين المعلّم وتلاميذه، وتعلّم مهارت غير ماديّة مثل القدرة على نقل المعرفة ، والقدرة على اتخاذ القرار، والحكم على الأمور.

ويعود الأصل في التسميّة إلى المجتمع الإغريقي حيث كان يعني مفهوم البيداغوجيا: العبد الذي كان يرافق الأطفال إلى المدرسة، ويمكن توصيفه في عصرنا الحاضر بمعلم الظل، حيث أنّه يرافقه طوال يومه الدراسي ويقوم بإرشاده وتوجيهه بشكل دائم .

عناصر البيداغوجيا:

  • – معرفة طرق وأساليب التدريس المختلفة وظروف تطبيقها .
  • – إدارة الفصول الدراسيّة وتقييمها ومعرفة الأطر المرجعيّة : كالتأثير الاجتماعي( سوسيولوجيا التربية) والفردي والدوافع الطلابيّة.
  • – التخطيط والتصوّر المسبق لللأهداف التعليمية والعملية التعليميّة.
  • – الكفاءة الذاتية المدركة للتعامل مع المجموعات الصفيّة غير المتجانسة.

لا بد ّأن يخضع حقل التربيّة والتعليم لآلية التقييم لدوره في صياغة ملامح الأجيال وبلورة قيم الأفراد وكفاياتهم بما أنهّم عماد نهضة المجتمع وتطويره والمساهمة في تنميته.

ولقد ارتبط التعليم بالتنوير في الأذهان ، ولكن هذا الدور الحضاري والتنويري تراجع في السنوات الماضية ليفسح المجال لظواهر حديثة ابتكر احداها ( باولو فيراري ) أحد أهم خبراء التربيّة في القرن العشرين بمصطلح “التعليم البنكي” واختزال التعليم في المعرفة، وانكمشت مهام المدرسة وانفصلت عن محيطها وتحوّلت إلى “قلعة” مغلقة ذات أسوار تحتفظ بما تقدّمه للأجيال داخل تلك الأسوار، واقتصرت الإصلاحات التربويّة التي شملت أغلب البلدان العربيّة وفي فترات متعاقبة على تغيير المناهج أو الطرائق التعليميّة أو مواد الدراسة، واهتمت بإصلاحات جزئية وقطّاعيّة، مما جعلها تشتغل على الأبعاد المعرفيّة وتتجاهل الأبعاد القيميّة، وتم اختزال المؤسسة التعليميّة في آلية توزيع شهادات النجاح، وماراثونات الركض من صف إلى آخر، وتصنيف الطلبة على حساب تكوين المواطن وتربيته وتنويره ،لا أن يُستعمل العقل وأن يكون أداة الحكم والتمييز، ويمكن هنا أن نضيف إلى التقرير الأوّل ل“منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية” بُعدًا آخر بالإضافة إلى الأبعاد الأربعة آنفة الذكر وهو : تعلّم من تكون ، وهو تعبير عن مفهوم الذات وهو من المفاهيم المهمّة في حياة الأفراد حيث أنّه يعبّر عن اعتزاز الأفراد بأنفسهم وثقتهم بها ، ويرتبط بقدرتهم واستعداداتهم وإنجازاتهم أفرادًا و جماعات، كما يُسهم هذا البعد في مساعدة الأفراد على مواجهة فوضى الميولات التي نعيشها في هذا العصر المزدحم بالأيدلوجيات والمفاهيم المتناقضة، والابتعاد عن شوفينية المعرفة.

إنّ دور البيداغوجيا يتخطى الدور المعرفي إلى أدوار متعددّة تشمل البُعد الانفعالي السائد داخل الغرفة الصفيّة والساحات المدرسيّة، وهو ما أبرزته الدراسات التربويّة والتقييمات الدولية مثل “بيزا” (PISA) من أنّ العلاقة الجيدة بين المُعلِّم والمُتعلّم بغض النظر عن العلامات أو الأداء المدرسي تُوفّر مناخًا عرفانيًا ومشجعًا للتعلّم ومؤثرًا في النجاح ومحفّزًا للطالب لتثمين ذاته وإدراك قدراته وكفاءته، وبعث أجواء تعلّم إيجابية تتطلّب من المعلّم إدماج مهاراته المعرفيّة وتقنيات إدارة المجموعة ومراقبة علاقات المتعلمين، وعلاج نقاط الضعف وتأطيرها مثل :إقصاء الآخر والتنمر والتقليل من قيمة انجازات الآخرين والمقارنة غير العادلة والتي تحوّل بوصلة التميّز باتجاه واحد وأوحد و غيرها التي تُعكّر صفو البيئة التعليميّة وتعمل كمشتتات سلبيّة تُؤدّى إلى ضعف اقتناع الأجيال بسبب التناقض الواضح بين ما هو داخل أسوار المدرسة وخارجها، ، حينئذٍ يكون المعلّم صاحب مشروع تنويري حقيقي.

كلّ ما تم ّذكره يقودنا بلا ريب إلى إعادة تعريف مفهوم المعلّم والدور الذي يؤدّيه معلمّ القرن الحادي والعشرين، حيث أصبح دوره لا يقتصر على نقل المعرفة؛ لأن ّما ينقله من معرفة أصبح في متناول يد الطلبة في أي وقت وأي مكان، ولا يعني ذلك الاستغناء عن البناء المدرسي وبيئته الاجتماعيّة والتي من شأنها بناء شخصيّة الطلبة المتكاملة معرفيًا ومهاريًا ووجدانيًا، وأصبحت النظرة تتجه إلى معلّم القرن الواحد والعشرين على أنّه مُيسّر للمعرفة من خلال توسعة مجال تفكير طلبته بطرائق التفكير العليا : التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي ، ومهارات حل المشكلات، وتوجيه ميول واتجاهات الطلبة إلى العمل الجماعي ومهارات التكنولوجيا الحديثة، وما يستجد من مهارات حياتية ضرورية لتواءم شخصيتهم مع العصر الذي يعيشون فيه، والخروج من المهمّة النمطية للمعلّم كونه موظفًا يؤدّي مهام محددّة وفق ضوابط مهنيّة دقيقة، دون النظر كونه مربيًا قبل أن يكون موظفًا، فدور معلّم القرن الحادي والعشرين أصبح دورًا حضاريًا مضاعفًا لما ينتجه الذكاء الاصطناعي من أدوات تُسهم في صقل شخصيّة الطلبة وضغطها في توجه أكثر عمقًا مما كانت عليه الأجيال السابقة بحيث تؤدي به في نهاية المطاف إلى العالميّة( المواطن العالمي) global citizen بمعنى: يُمكنه التكيّف في أيّ مجتمع آخر دون عناء لا يشعر بغربته فيه.

لا ننكر وفي الوقت نفسه نعتقد جازمين بأنّ هناك عوامل هدم واكبت العملية التعليميّة على مرّ السنين، ومن هذه العوامل وأكثرها تأثيرًا هي الشوفينيّة المعرفيّة، ونعني بذلك احتكار المعرفة والتعصّب إلى ما تمّ انجازه وأنّ كلّ علم أتى بعد ذلك فهو إفراز طبيعي لمعرفتنا سواءً العربيّة والإسلاميّة، أو لمعرفتنا الأوربية أو ما سواهما من حضارات سادت ثمّ بادت.

ولقد تسلل مصطلح الشوفينيّة المعرفيّة إلى المجال التربوي فأصبحنا نسمع ونشاهد ما أُطلق عليه الشوفينية التربويّة Education Chauvinism ، لقد ظهر مفهوم الشوفينيّة بشكل عام بعد عرض مسرحيّة فرنسيّة عن حياة الجندي الفرنسي ( نيكولاس شوفين) الذي شارك في الحروب التي قادها الإمبراطور الفرنسي ( نابليون) واستبسل ( شوفين) في خوض الحروب من أجل فرنسا، وأصيب بجروح عديدة ولم يكترث لذلك من أجل فرنسا وحبّ الوطن.

ومنذ ذلك الحين أصبح مفهوم الشوفينيّة يعني التّعصّب المغالى فيه للمجموعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كانت مجموعة عرقيّة أو دينيّة أو وطنيّة، مقدّمًا محبته لها فوق أي اعتبار، باستعلاء على الشّعوب والأمم الأخرى ، ومن الأمثلة على ذلك: هتلر، وموسوليني، وتشرشل وغيرهم.

وجاء تعريف الشوفينيّة (يكيبيديا ): هي الاعتقاد المغالي والتعصّب للوطن والقوميّة والعنجهيّة في التعامل مع خلافه، وتعبّر عن غياب رزانة الاستحكام في التحزّب لمجموعة ينتمي إليها الشخص والتفاني في التحيّز لها، وخاصّة عندما يقترن الاعتقاد أو التحزّب بالحط من شأن جماعات نظيرة والتحامل عليها، وتفيد معنى التعصّب الأعمى ، والشوفينيّة امتداد طبيعي للنزعة القوميّة، فالفخر القومي عندما يتجاوز حدوده يقود إلى الإستعلاء والنظرة الدونيّة للشعوب والقوميات الأخرى.

أمّا معجم المعاني الجامع فيعرّف الشوفينيّة: إفراط في الوطنيّة ينتهي إلى معاداة الدول والثقافات الأخرى، ويستعمل بمعنى سلبي، فقد يدعو رجل سياسي إلى سياسة خارجيّة شوفينيّة لكنه طبعًا لن يعترف بأنّ سياسته شوفينيّة بل يترك ذلك الحكم لأعدائه.

والشوفينيّة ممقوته بصورها كآفة الضيقة منها (الشخصيّة) والمجتمعيّة ( الشعوب والأمم) ،ومن أسوأ صور الشوفينية، الشوفونيّة التربويّة، سواء كانت صفة فرديّة أم جماعيّة، فإنها تؤدّى في نهاية المطاف إلى التقوقع على النفس ورفض الآخر والاستعلاء عليه والحط من ثقافته والتشكيك فيها ، والتناسي بأنّ التربية والتعليم عملية تراكميّة عبر الأجيال تُكمل بعضها بعضًاوتكون النتيجة الحتميّة دون أدنى شك تهميش صاحبها والاستغناء عن كلّ ما يمتّ إلى ثقافته بصلة، ويصبح قيمة متطرفة في المجتمع الإنساني يمكن حذفها دون تأثير ذلك على الأغلبيّة، ومن أمثلة الشوفينيّة التربويّة: المدارس العالميّة ونظرتها إلى مدارس التعليم العام بنظرة دونيّة، وتصنيف الجامعات وازدراء جامعات لم تدخل التصنيف، واستقطاب العقول بإغراءات ماديّة ، وتجيير النواتج العلميّة لبلدان دون غيرها، والدعايّة الجاذبة لمنتج تربوي دون غيره، كل ذلك يعمل على تغيير ميول واتجاهات المجتمعات إلى جهة تربويّة دون أخرى الخ ويكون معول هدم أدواته التعصّب والعنجهيّة والاستكبار وخلق العداوات والاستفزازات غير المبررّة ،ومن صور الشوفينيّة التربويّة التي تغلغلت في مجتمعنا العربي اتقان طلبة المدارس العالمية للغات أخرى غير لغتهم الأم، بل أصبحوا بحاجة ماسة إلى دروس خصوصية لاتقان لغتهم الأصيلة.

وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)

Loading...
Play ButtonPlay Button

You May Also Like