الاحترام والمسؤولية وحل النزاعات

الاحترام والمسؤولية وحل النزاعات بقلم الدكتور محمود المساد

الاحترام والمسؤولية وحل النزاعات بقلم الدكتور محمود المساد

مدير المركز الوطني لتطوير المناهج/ الأردن

الاحترام والمسؤولية وحل النزاعات عن طريق الحوار هو الطريق للوصول إلى الإيجابية المنشودة

في خضم عالم اليوم المتنافس على البقاء وبقاء الريادة عن طريق المعرفة حيازة وتوليدا وتفوقا، تسعى الدول الطامحة لتحقيق رفاهية شعوبها وريادتها بولوج طريق واحد لا ثاني له…… إن كانت هذه الرغبة لهذا التفوق وهذا الازدهار طموحا حقا جادا من أعماقها – لا تمثيلا على شعوبها – ، وإن كان همّ قيادات هذه الشعوب تفوق شعوبها وتحصين كرامتها وتحقيق مبتغاها وطموحاتها يعنيها ويتقدم على مصالحها الخاصة ، باعتبارأن عكس ذلك تتصدع وتضيع البنية التحتية للتفوق والريادة والابتكار المتمثلة بالكرامة الإنسانية والتحرر من الخوف والتمتع بإيجابية الأجواء الحافزة على التأمل والنقد والتفكير العميق والطمأنينية . هذا هو الطريق الوحيد الواضح المسمى بالاحترام كقيمة مكتسبه تشربتها القيادات في المقام الأول، ونشرتها ثقافة مجتمعية بالقدوة الحسنة وحصّلت على أساسها الموثوقية الحقيقية من لدن شعوبها كونها تستحق عن جدارة هذه الثقة وهذا الامتثال .

ومعلوم أن الاحترام بوصفه قيمةهو مفهوم مركب لا تنفصل أجزاؤه ولا تتجزأ، فاحترام الفرد لذاته وللآخر من جهة ، واكتساب الفرد احترام الآخر المحترم من جهة ثانية ، وتبادلهما الاحترام القائم على تحمل كل منهما دوره في المسؤولية وما تعهد به من مهام من جهة ثالثة ، هي معايير مجتمعية تشكّل معا هذا المفهوم المركب الذي يشكّل بالتراكم والرسوخ لدى الفرد في عقله وقلبه الإطار الفكري الذي يوجه سلوكه فيما بعد بشكل متسق في كل المواقف والظروف . وبالتأكيد فإن تبني الكل لهذا المفهوم وتمثلهم له وتوجيهه لسلوكهم المحترم يعني بالضرورة مجتمعا أخلاقيا متراحما يعمل ويسعى للتفوق، وأن أي نتيجة تشرح عكس ذلك من غياب للأخلاق وانتشار للفساد والفوضى والتناحر تعني تشوها وتصدعا لهذه القيمة الجامعة المركبة من جهة، وغياب كل ما يدعم الإنجاز المناسب والسعي للتطور والريادة والتفوق من جهة أخرى .

ولمّا كان الاحترام حاجة إنسانية أساسية يستحقها كل إنسان بل هي من حقه كونه إنساناً بغض النظر: من هو ومن أهله وفي أي بلد يقيم وأي دين يتبع وأي لون قد اكتسب. ولديه كرامة لها متطلبات للحفاظ عليها فهذا وحده يكفي لكي يستحق التعزيز للتمتع بها، إذ بدون ذلك لن يشعر الفرد الإنسان بالزهو والانتعاش وهو يحمل هذه القيمة ويمارسها في سلوكه الحياتي. وهذا الحديث لا يعني من قريب أو من بعيد أننا جميعا متشابهون ولا اختلاف بيننا وأننا لا نختلف بالرأي ونختصم، بل يعني أننا في قمة اختلافنا لا يعتدي الواحد منّا على كرامة الآخر وإنسانيته.

إن تصعيد النزاع في الغالب ومبتدأه يقف وراءه سوء الفهم وضعف الإصغاء اللذان يفضيان بدورهما إلى تشوه معنى الرسائل البينية بين الأفراد أو الجماعات، وخاصة عندما تجبل بتدني الثقة أو انعدامها بين المرسل والمستقبل فردا كان أم جماعة. وحقيقة هذا ما نقوله بالضبط في حال غياب الاحترام كقيمة عن سلوكنا، إذ بوجودها علينا أن نحسن الظن بالآخرين ونصغي إليهم وندقق في رسائلهم ونفهمها على الوجه الذي هي عليه في مقاصدهم الحقيقية، والوصول إلى هذه المقاصد الحقيقية بكل الأساليب والأشكال قبل اتخاذ أي موقف إزاءها . وإن كان لا بد من الاختلاف وتصعيد النزاع فلا مساس أبدا بالكرامة الإنسانية واحترام الآخر ليكون هذا في الوقت نفسه الطريق السلس الذي يقوم عليه حل النزاع ويشكل الأرضية التي تقوم عليها عملية التفاوض والحوار بغرض حل الخلاف .

وبالوقوف عند مؤسسة المدرسة والتأمل بمكوناتها على أنها مدرسة بعينها نجد الاختلاف الكبير بين مكون الطلبة من حيث اللون والدين والثقافة الفرعية والمستويات الاقتصادية والاجتماعية للوالدين والحي أو الفئة أو الطبقة ….وغير ذلك من الفروق الكثيرة، كما لو نظرنا بالطريقة نفسها وتعمقنا في الاختلاف بين مكونات أخرى من مثل : المعلمين والإداريين وأولياء الأمور وكل المسؤولين والمتعاملين مع المدرسة . هذا من جانب ولكن الجانب الآخر في المعادلة يكمن في المدرسة نفسها كمؤسسة وما رسمته لنفسها من رؤية ورسالة وما قررته لنفسها من قيم مؤسسية وأهداف استراتيجية . وحتى هذا الحد تبقى الأمور في نصابها إلى أن تبدأ عمليات التفاعل بين هذه المكونات مع بعضها في كل مكون، وبين المكونات وعلى المستويات كافة، الأمر الذي تتكشف معه كيفيات الأداء ومستوى الاحتكاك والتضارب أو التكامل والانسجام في الوقت الذي تظهر معه كفاية الأداء وما آلت إليه وحققتة من نتاجات استنادا لمؤشرات الأداء.

ومن هنا، ننطلق لما نريد الحديث عنه، ففي هذه النقطة بالذات تتفاوت المعرفة والمهارات والاتجاهات لدى من يقود عمليات التفاعل هذه ويوفر لها الظروف والمتطلبات اللازمة للنجاح والتفوق، من يؤسس ويشكّل الحاضنة المناسبة للتفاعل ويضبط الإيقاع ويوجه ويدعم مسيرة العمل بيسر وتناغم فائقين؟ إذ لا بد لهذه القيادة من أن تؤمن وتمارس قيم المؤسسة ابتداء ، وهنا نتحدث عن الاحترام كقيمة من قيم العمل الأساسية وبالذات في المدرسة والمجال التربوي والتعليمي ،فالتمتع الكافي في هذه القيمة لا بد وأن يظهر في احترام هذا التنوع وهذا الاختلاف داخل كل مكون وبين المكونات في إطار المدرسة الواحدة ، فكل ثقافة فرعية تستحق الاحترام وتحتاج إليه كما هو الحال في كل اختلاف وتنوع ، وهذا هو ما يمهد ويبني الأساس ( البيئة الحاضنة ) الذي تقوم عليه التفاعلات بالشكل الصحيح والسليم من جهة ، ودعم الرغبة في البناء على نقاط الالتقاء والاتفاق لتنصهر معا في بوتقة واحدة وعلى طريق واحدة تحقق معا إنجازا أكبر وأعلى من جهة أخرى .

وأن ما يسهل الحوار ويقوي التفاعل ويوجهه نحو الإيجابية هو الاهتمام بخصائص نمو الطلبة وتفهمها العميق من الكبار بوصفهم أطراف تفاعل، فخصائص نمو الطلبة من مثل: الاستقلالية والانجذاب وقوة تأثير الأقران وغيرها الكثير هي الخصائص التي يمكن للكبار أن يؤسسوا عليها البناء القيمي الراسخ المطلوب. وفي هذه الحالات يلعب المدرسون والآباء الدور الرئيس في بناء هذه العلاقة الإيجابية القائمة على الثقة والتي بفقدانها تنمو المشكلات وتتصاعد السلوكات غير المحببة مثل الغضب والتوتر والعدوانية .

وبالنظر إلى السلطة الممنوحة للمدرسة والتي بموجبها تمارس بها دورها، فإنها تتراوح بين الشكل التقليدي للمارسة القائمة على التهديد والتلويح بالعقاب، وبين الحداثة في الممارسة القائمة على الاحترام والصبر وروح الدعابة . ومع أن الخيار الأول القائم عل العقاب قد توقف قانونا بعد أن ثبت فشله، إلا أن المعلمين وكادر الإدارة المدرسية يتفننون بتجديد أشكاله وتنويعها التي يحس بها الطالب/الطالبة بالإهانة والمس بالكرامة وانكسار الروح المعنوية .

إننا نعيش اليوم في عصر السرعة، وعصر تفجر المعرفة والحصول عليها بسرعة البرق ، ونجد أننا في الوقت نفسه نعبر إلى حل النزاعات بالنمط ذاته بكل سرعة ونفاد الصبر . إن التحول إلى الصبر والاحترام الذي يبطىء من سرعة التحدث ، والإصغاء ، ويعطي كل إنسان الفرصة للتحدث ، ويعطي الناس الوقت الكافي للتأمل والتفكير ، ويأخذ بعين الاهتمام حاجات كل شخص ، ويحدد المشكلات الواجب حلها ، ويسعى لإيجاد الحلول الناجعة لها عن طريق المعنيين وذوي الاختصاص ، هو التحول المطلوب كونُ السرعة لا تترك للتعبير عن الاحترام الوقت الكافي . وعليه، فإن المعادلة القائمة على ثلاثية ( الاحترام والمسؤولية وحل النزاعات عن طريق الحوار تبقى هي الأمل والهدف المنشود ).

النزاع هو النزاع صغر أم كبر ، ويجب أن ننظر إليه كونه جزءا طبيعياً من التجربة الإنسانية ، فجميعنا عاش ويعيش وشاهد وسمع عن النزاع أو كان طرفا فيه . وكما تعلمنا عن التنفس وكيف نتنفس بشكل صحيح ، وكيف نعي الطعام الصحي وكيف نأكل ونحافظ على صحتنا ،علينا أن نتعلم عن النزاع وكيف نحله بالحوار والود والعودة السريعة للإيجابية المنشودة .

إن الاحترام كقيمة والنزاع ضدّان لا يجتمعان ، لكن سؤال المليون هنا: كيف نجعل من الاحترام مدخلا وأرضية صلبة ضرورية لحل النزاع ؟ .

فنحن لا ندرس حل النزاعات، ولا نحاول التمكن من مهارات حلها، إمّا لأننا لا نعترف بها، أو لأننا لا نريد أن نعترف بها في بيئتنا المدرسية على سبيل المثال ، لكننا لو اعترفنا وجاهرنا بأن الاختلاف والنزاع أمر طبيعي في الحياة الإنسانية عموما وعلينا أن نتعلم كيف نحله بالود والاحترام والثقة لأعطينا للحياة طعمها الخاص الطيب الذي نشعر به بعد كل حل لنزاع وعودة للتصافي والمحبة . فعندما نفكر في فض النزاع ، بإمكاننا أن نفكر به كقائمة وجبات الطعام التي توفر لنا الخيارات التي نحتاجها . ففي هذه القائمة نجد خيارات مثل التفاوض ، والإصغاء ، وإدارة الغضب ، وحل المشكلات ، والرسائل الشخصية ، وفهم المشاعر ، والعصف الذهني ، والتأمل ، وغيرها الكثير . …… وعند كل نزاع نعود للقائمة ونختار منه المناسب أو الأنسب، وقد نمزج ونوالف بين أكثر من مهارة لحل النزاع. وهنا نعتمد على إتقان الفرد كبيرا كان أم صغيرا لهذه المهارات التي تعلمها وأتقن مهاراتها ووضعها في مواقف حياتية متعددة .

نأمل لو كانت المطرقة هي الأداة الوحيدة التي نستعملها في البناء؛ لأننا سنقوم بالمهمة بشكل جيد باعتبار أن المطلوب هو غرس المسامير وخلعها فقط . ولكن لو كان المطلوب يكمن في تقصير الألواح أو تطويلها وأخذ المقاسات، وحفر الحفر وغيرها الكثير لما نفعت المطرقة للقيام بكل هذه المهام .

إن الحاجة ملحّة لتعدد الأدوات والمهارات ( قائمة خيارات مفتوحة ) ، إضافة إلى المهارة الأهم في اختيار الأداة الأنسب لموضوع النزاع …….. في الوقت والظروف المناسبة أو ترتيبها لتكون مناسبة، مع التوظيف المبدع لكل ذلك في أثناء إدارة العملية أداء وحوارا وإشاعة للأجواء المريحة المعززة باتجاه الإيجابية على قاعدة الاحترام – المعنونة بفض النزاع وإحلال التفاهم والتعاون والكرامة . وهنا ننتظر الاكتساب لهذه المهارات الشاملة لتصبح فعلا لا إراديا يترسخ بالتدريج ليصبح جزءا من الشخصية على صعيد الفرد وعلى صعيد المؤسسة ( ثقافة مؤسسة تقوم على فض النزاعات ) .

أقرا المزيد

You May Also Like