العودة إلى الأساسيات والتعليم من أجل المستقبل

الإدارة الصفيّة ومهارات القيادة

العودة إلى الأساسيات والتعليم من أجل المستقبل

بقلم: د. يحيى أحمد القبالي

التعلّيم من أجل المستقبل هوعبارة عن تخيّل لما ستكون عليه البشرية بعد سنوات، وتهيئة أبنائنا لذلك السيناريو أو بالأحرى لأكثر من سيناريو ، و محاولة للعيش في عالم متقدّم قياسًا على ماتمّ من تقدّم في المجال التكنولوجي أو ما يُطلق عليه الذكاء الاصطناعي، فمنذ الثورة الصناعية الأولى قي بداية القرن التاسع عشر (1830م ) بدأت البشريّة تضاعف من معرفتها وتسعى إلى مضاعفة تلك المعرفة ، ولقد تابعت شركة( أي بي أم )وهي المؤسسة الدوليّة للحواسيب وتختصر ب( IBM ) وهي شركة استشاريّة وتقنيّة أمريكية متعدّدة الجنسيات ، يقع مقرها الرئيسي في نيويورك ويعمل فها أكثر من( 350,000 ) موظفًا يخدمون (170) دولة، تابعت هذه الشركة مراحل تضاعف المعرفة، فكان التنافس على أشده منذ عام( 1930م) وحتى عام( 1970م ) حيث تضاعفت المعرفة مرة واحدة خلال( 40 )سنة مضت، ومنذ عام( 1970 م) وحتى عام( 1990م ) تضاعفت المعرفة مرة أخرى خلال( 20)سنة، ومنذ عام( 1990 م) وحتى عام( 2000م ) تضاعفت المعرفة مرة أخرى لكن هذه المرة تقلصت المدة إلى( 10 )سنوات، وفي عام( 2014 م) أعلنت شركة أي بي أم، أنّ المعرفة تتضاعف كلّ( 8 )أشهر، وفي عام( 2017م ) أعلنت الشركة ذاتها بأنّ المعرفة تتضاعف كلّ( 18 )ساعة، واليوم تتضاعف المعرفة كلّ( 12 )ساعة وهانحن نعيش في ظلال الثورة الصناعيّة الرابعة(2016م) ثورة الروبوت، وانترنت الأشياء،والنانو، ومعلومات الاتصالات، والطابعة ثلاثيّة الأبعاد.والعنوان الأبرز لهذه الثورة: وزارات بلا زوّار، ومجتمع بلا أوراق؛ ويعني ذلك: أنّ المواطن سيقوم بتجديد واستخراج أوراقه الحكوميّة سواء مستندات أو أوراق ثبوتيّة وهوفي منزله من خلال شبكة الإنترنت المتصلة بالوزارات كآفة، وستختفي الأوراق من أيدي طلبة المدارس ويتم الاعتماد على الحواسيب، وستختفي الأوراق النقديّة ويتم الاعتماد على بطاقة الصرّاف الآلي.

يقودنا الذكاء الاصطناعي إلى مالا نهاية بإيجابياته وسلبياته، وتلهث المجتمعات قاطبة للركاب بعصر العولمة، وما تكاد تخطو خطوة إلى الأمام وتلتقط أنفاسها حتى يتسع الأفق وتتشعّب طرائق وأشكال ذلك الذكاء فتسابق الزمن للحصول على أجود المتوفّر من تكنولوجيا، وكلّ ذلك من شأنه التأثير على العملية التعليمية، مع علمنا اليقين بأنّ التعليم لن يتلاشى ولكنه سيأخذ أشكالًا مختلفة، والتكهنات بشأن تلك الأشكال قد لا يحيط بها تفكيرنا الحاضر وتبقى كلّ الاحتمالات قائمة، وستواجهنا حتمًا تحديات تفرض علينا بعض التنازلات للدخول في عالم الحضارة المتشابه الأفراد المختلط العادات والتقاليد ونسبيّة القيم التي يتمتع بها كل مجتمع ، تلك المتغيرات التي جعلت بوصلة الأجيال حائرة لا تشير إلى اتجاه معيّن، فلم تعد المدرسة تتسع لكلّ أشكال التطوّر، وضاقت الغرفة الصفية بكم المنهاج ، وأصبح البرنامج الدراسي مملًا بسبب طول الوقت الذي يمضيه الطالب على مقاعد الدراسة، وتنوعت وتشكّلت المواضيع داخل المنهاج دون الأخذ بعين الاعتبار ما يناسب ميول الطلبة ، فيتخرّج أكثر الطلبة من المدرسة دون إرشاد مهني ودون دراية بمتطلبات سوق العمل ومهنة المستقبل، وعلى هذه الحال وقف أصحاب القرار التربوي عاجزين عن إيجاد الحلول طويلة الأمد، وما يزيد الأمر تعقيدًا أنّ أكثر الخريجين سواء من المدرسة أو الجامعة لا يملكون الحد الأدنى من الثقافة أو متطلبات التخصّص، وقد يعزو المختصون السبب إلى الثورة الصناعية والتوسّع الاقتصادي العالمي في مجالات التكنولوجيا والذي أسفر عن ظهور نقص في أعداد خريجي الجامعات الذين يدخلون سوق العمل متسلحين بمهارات السوق التي يبحث عنها أصحاب العمل.

وعودة على بدء فإن التقدّم العلمي لن يقف إلى حد وسيبقى الأمر يراوح مكانه ؛ لأنّ الجامعات لايمكنها تحديث برامجها أسبوعيًا أو شهريًا تماشيًا مع التقدّم المتسارع.

أمّا الجانب المدرسي فالعنوان الأبرز : فقر التعليم.

إنّ إصلاح المنظومة التربوية يتم من خلال خطوتين:

الخطوة الأولى : العودة إلى الأساسيات.

الخطوة الثانية: تطوير التعليم الجامعي من خلال التدريب.

ماذا نعني بالعودة إلى الأساسيات؟

إنّ الدعوة للعودة إلى الأساسيات لها ارتباط وثيق بتاريخ التعليم منذ الفيلسوف اليوناني أفلاطون حتى وقتنا الحاضر فالمعادلة ثابتة: معلّم، منهاج، طلبة، اختبارات، أدوات تعلّم ولكن ما طرأ عليها من تغيير هو المتغيّر، وما نظريات التعليم إلّا جزء من تلك المعادلة ولكن بسياقات مختلفة ، و لقد ظهر أوّل نموذج للبناء المدرسي المعاصر على يد الأمريكي (هوراس مان1873 م) وبقي ذلك البناء حتى وقتنا الحاضر شاهدًا على تلك الحقبة الزمنيّة ولم يطرأ عليه أيّ تغّير يُذكر، وما زال ذلك البناء على حاله بالرغم من التحولات التكنولوجية دائمة التطوّر، وقبل تلك التحولات فقد ظهر التشكيك على لسان (ايلتش) في كتابه المعنون : مجتمع بلا مدارس، والدور الذي تلعبه المدرسة من تدجين، وتلقين، وتسييس،من وجهة نظرهبقي السؤال المطروح: إلى أي ّحدٍ ساهمت تلك التكنولوجيا بجودة التّعليم وتطويره؟

بلا أدنى شك ولا يختلف اثنان على الإجابة بأنّ المنظومة التربويّة لم يطرأ على أساسياتها تغيير يُذكر، فمستوى التعليم مازال يُراوح مكانه بل حتى أنّه قد انحدر في كثير من الدّول وما زلنا ندور في حلقات مفرغة نُبددّ من خلالها الوقت والجهد والمال، والخاسر الأكبر هو الطالب ثم المجتمع، مما يدعونا إلى التمسّك بالأساسيات والدعوة إليها بقوة.

مبررات الدعوة إلى الأساسيات: إنّ المتتبّع لمسيرة التعليم منذ بداياتها يلمس بشكل واضح تدني مخرجات التعليم برغم توفّر أدوات التكنولوجيا الحديثة، ولربما كان لهذا السؤال صداه: ماذا أضافت التكنولوجيا الحديثة إلى التعليم؟ وبالتأكيد سنجد معارضين لمثل هذا الطرح، وسيدافعون باستماتة عن وجهة نظرهم متخذين من مخرجات التعليم في الدول الأجنبية نموذجًا يحتذى باستخدام تلك الأدوات، علمًا بأنّ الدول الأجنبية تتصدر بشكل دائم المراكز الأولى في التعليم قبل وبعد دخولنا في الثورات الصناعية المتتابعة، من هنا يمكن القول بأنّ المشكلة تكمن في استخدامنا لتلك الأدوات بالإضافة إلى ضعف توجهاتنا التربوية المطبقّة على أرض الواقع، ومهما كانت الأسباب فلا بدّ من مراجعة صادقة مع أنفسنا وتقييم عادل مابين الأمس واليوم، فالرجوع إلى الأساسيات أصبح ضرورة قصوى.

وحتى لا يُساء الفهم لا بدّ من توضيح فكرة الدعوة إلى الأساسيات بعقل منفتح وموضوعيّة تامة، وهي تتمثّل بالآتي:

1-التركييز على القراءة والكتابة والحساب في الصفوف ( 1 – 4).

إنّ اللغة العربية هي لغة الاشتقاق واحتوائها على (12) مليون مفردة قد يدفعنا إلى القول: علموا أولادكم القراءة والكتابة والحساب ، فإنّ المرحلة الدراسيّة من الصف (1 – 4) لا تتسع لأكثر من ذلك .

2-عدم ترحيل المناهج من الصف الأعلى إلى الصف الأدنى، كما هو الحال في منهاج رياض الأطفال حيث كانت منهاج الصف الأول الأساسي، وهكذا دواليك، مما ترك أثرًا وفجوة بين ما تعلّمه الأباء وبين ما يتعلّمه الأبناء .

3- الغاء التحديثات في المناهج، بمعنى أن يتم حذف المناهج المنفصلة ل: العلوم ، والاجتماعيات ، وتضمينها في دروس اللغة العربية ، وحذف الرياضيات الحديثة من الصفوف (1– 4) والتركيز على المهارات الأساسية( جمع، طرح، ضرب، قسمة) حتى درجة الإشباع.وحذف منهاج الحاسوب ، فهو أصبح مهارات ومنهاج جانبي يتعلّمه الطلبة بأنفسهم من خلال الهواتف الذكيّة، وتأخيير تعلّم اللغة الانجليزية حتى الصف الخامس الأساسي، ليتسنى للطالب تعلّم لغته الأم بشكل سليم.

4-التركيزعلى تعلّم القيم( الدينيّة والوطنية والاجتماعيّة) وتنميتها نظريًا وعمليًا في الصفوف كآفة من خلال ربط المنهاج بالأداء، وذلك في المراحل التعليميّة: رياض الأطفال ، والأساسية والثانويّة.

إنّ تاريخنا العربي والإسلامي مليء بالقيم ولا ضير من تمثّل القيم العالمية التي تنمي حب ّالوطن والتضحية والايثارالخ وربط ذلك عمليًا من خلال واجبات تطبيقيّة خارج أسوار المدرسة، بما يُطلق عليه التعلّم من خلال المشاريع، لأن يحتاج الطلبة يحتاجون لأكثر من المعرفة ليصبحوا مواطنين صالحين.

5-تكثيف الدورات التدريبية للمعلمين لتطبيق مهارات اللغة ( استماع، محادثة، قراءة، كتابة) ونقل أثر التدريب إلى الطلبة.

إنّ المتتبّع لمعارف الطلبة يشعر بالأسف لفقر التعليم الذي يعاني منه أبناؤنا ، فلا يكاد يقرأ الطالب فقرة إلا وقد وقع بعدة أخطاء نحوية، وهذا الحال ينطبق على الكتابة بالوقوع بأخطاء إملائية أيضًا.

إن تطبيق المعلّم الصحيح لمهارات اللغة ينتقل تلقائيًا إلى طلبته فهو يمثّل القدوة لهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.

6-تكثيف الدورات التدريبية للمعلمين لتطبيق مهارات الحساب( جمع،طرح،ضرب،قسمة) ونقل أثر التدريب إلى الطلبة.وإعادة الأرقام إلى ما كانت عليه باتجاهها الصحيح من اليمين إلى الشمال.

يشعر الوالدان بخيبة أمل كبيرة عند ذهاب أبنائهم إلى التسوّق، فيكاد يأخذهم الشك إلى توصيتهم أكثر من مرة بالحرص على ما بين أيديهم من نقود ، فهم لا يتقنون عمليتي الجمع والطرح وقد لايدركون ما وقعوا به من خطأ التعامل مع البائعين من زيادة أو نقصان بسعر السلعة التي تم شراؤها.

7-التخفيف من الواجبات المنزليّة غير المبرّرة.

ما إن يسمع الطالب جرس نهاية الدوام المدرسي حتى ينطلق مسرعًا من أبواب مدرسته وكأنه طائر غادر القفص لينال حريّته، فتلاحقه الواجبات المنزلية بثقلها، ودعونا نقول: دعوا أبناءنا يعيشوا طفولتهم،ويستمتعوا بوقتهم مع أسرهم وجماعة الرفاق، فالشارع له دور في عملية التربيّة ضمن الحريّة المقيّدة من أولياء الأمور لأبنائهم واختيار الأصدقاء الصالحين.

8-إعادة سلطة المعلّم في الغرفة الصفيّة التي تضاءلت بسبب سياسات التخطيط غير الفعّال.

يتعلّم الإنسان من خلال أساليب تعديل السلوك والتي تعتمد على مبدأين أساسيين هما: الترغيب(الثواب) والترهيب(العقاب) فالتوازن بينهما هو المطلوب فلا نجرّد المعلّم من كافة صلاحياته، ومن المفترض أن يكون بيده سلاح يمكن من خلاله الضغط على طلبته وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وإعطاء المعلّم حريّة استخدام التكنولوجيا الحديثة في غرفة صفه حسب الحاجة لفسح المجال لتبادل المشاعر من خلال التفاعل الجسدي بينه وبين طلبته واكتساب المهارات الاجتماعية التي تفتقدها أدوات الذكاء الاصطناعي.

9- تفعيل دور الأسرة من خلال المشاركة في الأنشطة غير المنهجيّة.

لا بدّ أن يشارك ولي الأمر في العملية التعليميّة وليكن الدور المنوط به دور الحارس والمراقب لتربيّة ابنه، فلا يسمح لأبنه بالابتعاد عن السرب، وفي الوقت نفسه يكون مطلعًا على تقدّمه وسير تعليمه.

الخطوة الثانية: تطوير التعليم الجامعي من خلال التدريب.

وبموضوعيّة تامّة وحتى نكون منصفين ولا ننقص المؤسسة الجامعيّة حقها، لا بدّ من الاعتراف صراحة وضمنًا بأنّ الجامعة لا يمكنها حقن المتطلبات الجامعيّة بكلّ ما يطرأ على الساحة التكنولوجية بشكل يومي أو أسبوعي أو شهري، لذلك من الأجدى أن تقوم الحكومات بفتح باب التنافس الشريف للأكاديميات المتخصصة على غرار أكاديميّة الملكة رانيا لتطوير المعلمين، تكون هذه الأكاديميات المتخصصة في : الهندسة، والقانون، والطب، والصيدلة وكافة التخصصات قادرة على منح المتدرب رخصة مزاولة المهنة وجسر الفجوة بين التخصص ومهارات السوق، بحيث يمكن للمتدرب الإطلاع على كلّ جديد في مجال تخصصه لم يتسنى له الاطلاع عليه خلال فترة دراسته الجامعيّة، بمعنى التدريب قبل الخدمة .

فسوق العمل لم يعد يكتفي بشهادة جامعيّة للمتقدمين للوظائف ، بل يحتاج مهارات إضافيّة تتعلّق باستخدام التكنولوجيا ومهارات التواصل، ومهارات الإدارة والتنظيم والتسويق وغيرها، وهي متطلبات نوعيّة يتطلبها سوق العمل، وتحديث المهارات الشخصيّة وتنميتها تعتمد على مجهود شخصي أيضًا من طالب الوظيفة فهي قيمة مضافة إلى إمكانياته، فاكتساب المهارات عملية مستمرة لا تتوقف أبدًا والعلاقة بينها وبين الأمان الوظيفي علاقة طرديّة، فمتطلبات سوق العمل الكميّة والنوعيّة تدفع الخرّيج الجامعي أن يجعل لنفسه قيمة بين أعداد الخريجين المتزايدة يومًا بعد يوم، خاصّة في ظل التنامي الرهيب للذكاء الاصطناعي.

إنّ الحديث عن التعليم وطرق تطويره كانت من السهولة بمكان قبل عقود ، أمّا في وقتنا الحاضر فإن التطرق لمثل هذا الطرح يتطلب دراية واسعة واطلاع كبير على ما تم انجازه في مجال الذكاء الاصطناعي والتقدّم العلمي في شتى المجالات، فلم تعد الصورة المستقبلية لشكل التعليم واضحة المعالم ،وأصبح تخمين ذلك ضربًا من الخيال، فالتعلّم عن بعد ألغى الدور الفيزيائي للمدرسة فلم يعد للبناء المدرسي قيمة تذكر، واختصر أيضًا من فريق عمل المعلمين للمادة الواحدة إلى معلّم واحد وحاسوب واحد بتعلّم مرن يحدث طوال الوقتولا ندري ما يخبئ لنا المستقبل .

وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)

Loading...
Play ButtonPlay Button

You May Also Like