سرعة البديهة والتفوّق العقلي
بقلم: د. يحيى أحمد القبالي
يطالعنا الأدب التربوي المتعلّق بالمتفوقين عقليًا أنّ سرعة البديهة وهي عبارة عن: ردة فعل تتمثّل بحسن التصرّف في المواقف المفاجئة وغير المتوقعة، تُعدُّ سمة أصيلة للمتفوقين عقليًا أصحاب التفكير الإبداعي.
وتعرّف سرعة البديهة في معاجم اللغة، كمعجم المعاني الجامع:
بديهة: اسم، والجمع: بديهات وبدائه.
البديهة: سداد الرأي عند المفاجأة.
وحاضر البديهة: سريع الفهم والإدراك.
البداهة، هي مجيء الكلام على السليقة بدون إعمال فكر.
ويُقال :صاحب بديهة، بمعنى يصيب الرأي في أوّل ما يُفاجأ به، يفهم ما يُلقى عليه من أوّل وهلة.
وتقترن سرعة البديهة بالتفكير الإبداعي ، فهما صنوان لا ينفصلان، والتفكير الإبداعي خاصيّة ثابتة للمتفوقين عقليًا لا ينازعهم فيها أحد، حيث يمتاز التفكير الإبداعي ب: المرونة، والأصالة، والطلاقة.
هل سرعة البديهة مهارة فطرية أم مكتسبة؟
نجد بعض الناس سريعي البديهة تنساب الكلمات من بين شفاههم دون عناء، وفي بعض المواقف تكون بلسمًا شافيًا، وأحيانًا أخرى تكون سُمًا زعافًا، يتلاعبون بالحروف والكلمات كما يشاؤون، ويتحايلون على اللغة ببساطة، بينما يجد البعض الآخر صعوبة في الرّد أو التعليق، ويقضون وقتًا طويلاً في البحث عن إجابة مناسبة وغالبًا ما يفشلون.
تُعدّ سرعة البديهة سمة فطرية، غير مكتسبة، إذا كانت ملازمة للفرد طوال حياته، ولكنها تتطوّر بالممارسة، وتتأكّد في المواقف المتشابهة، فهي مؤشّر على ارتفاع مستوى الذكاء، ولكنها قد توجد عند بعض الأشخاص غير الأذكياء ولكنها تكون عرضيّة وغير دائمة، أو تقليدًا لموقف سابق مشابه، وأصحاب سرعة البديهة أذكياء وأصحاب فراسة دون أدنى شك، وفي تاريخنا العربي قديماً وحديثاً أمثلة كثيرة تشير إليهم، في: السياسة ، وإدارة الملك، و العلم، والأدب، وفي سائر الفنون.
سرعة البديهة وزلاّت اللسان.
نتكلّم بحذر خوفًا من التفوّه بزلّة (فرويدية) قد تفشي سرًا أخفيناه بلا وعيٍ لسنوات طويلة، ولطالما كانت زلّات اللسان المهلك والمآل غير المحمود لأشخاص ظنوا أنّهم في مأمن من السنتهم. فهذا عالم النفس النمساوي (سيجمونجد فرويد) يجتهد لفك هذه الشيفرة من زلّات اللسان تحت اسم (سيكولوجية الهفوات) بقوله:”هذه النزعة إلى التحوير أو بالأصح للمسخ والتحريف، نلحظها عند من يقلبون الكلام البريء إلى كلام بذيء عن قصدُ طلبًا للدعابة والتندّر، وبرسلونه على سبيل النكتة، والولقع إننا حين نسمع أمثال تلك النكات لا ندري أيقصد بها للدعابة أم أنها وقعت عن غير قصد فلتة من فلتات اللسان؟ …إنّ الهفوات ليست وليدة المصادفة، بل أفعالًا جديّة لها مغزاها، وتنجم عن وجود قصدين مختلفين…فالحقيقة تظهر مع زلّات اللسان.
ويؤكّد ذلك القول علي بن أبي طالب( رضي الله عنه) حين يقول: ”ما أضمرَ أَحدٌ شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه، وصفحاتِ وجهه.”
وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني: دخل أستاذ جامعي في إحدى الجامعات على القاعة الخطأ، فقال له الطلبة:
– يا دكتور محاضرتك في القاعة الثانية.
الدكتور: آسف، واستشهد بقوله تعالى من سورة البقرة: “إن البقر تشابه علينا“.
ردّ أحد الطبة: مستشهدًا بآية من القرآن الكريم: (كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم).
وغالبًا ما تكون زلّات اللسان الموجّهة إلى المتفوقين عقليًا لا يُحمد عُقباه من ردود لاذعة تجعل الدائرة تدور على من تلّفظ بها تجاههم، وربّما العكس صحيح إذا صدرت سرعة البديهة من المتفوقين عقليًا لغيرهم من الأفراد العاديين متوسطي الذكاء فقد تصبح مثلّا يتردد في مواقف مشابهة، ولا يملك هؤلاء الرد عليهم ، ويقول المثل: إذاكنت ريحًا فقد لاقيت إعصارًا. فهذا فتىً يُفحم أبا العلاء المعرّي الشاعر والفيلسوف عندما راجعه في ادّعاءاته بمثل هذا القول:
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
فقال الغلام: الأوائل جعلت حروف الهجاء( 28 ) حرفًا، فزدها حرفًا وحداً.. فأُفحم أبو العلاء، وتأثر بسرعة بديهة الغلام.
والشاعر أبو تمام كان مشهوراً بالذكاء، ويُعدّ ممن جدّد في الشعر العربي، واهتم بدلالات اللغة، فقيل له: مالك تقول ما لا يُفهم؟
فأجاب قائلاً: ما لكم لا تفهمون ما أقول؟
وقد ورد أنّه مدح الخليفة العباسي المعتصم، في قصيدته السينيّة، ولمّا وصل إلى هذا البيت:
إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال الكندي الفيلسوف وكان حاضراً، بقصد الإنقاص من قدر أبي تمام.
– الخليفة فوق من وصفت، وما زدت على أن شبهته بأجلاف العرب.
– فأطرق أبو تمام، ثمّ قال على البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس.
وسأل ملحد مؤمنًا:
–ماذا سيكون موقفك لو متّ، ثمّ اكتشفت بأنّ الجنة والنار لا وجود لهما؟
المؤمن: لن يكون أسوأ من موقفك لو متّ ثمّ اكتشفت بأنّ الجنّة والنار حقيقة.
وقف أعرابي معوّج الفم أمام أحد الولاة فألقى عليه قصيدة في الثناء ؛ التماساً لمكافأة، ولكنّ الوالي لم يعطه شيئاً وسأله:
– ما بال فمك معوجاً؟
فردّ الشاعر: لعله عقوبة من الله لكثرة الثناء بالباطل على بعض الناس!!
كان الخليفة العباسي المتوكّل في رحلة صيدُ فرمى عصفوراً فلم يصبه
فقال وزيره: أحسنت.
فرد الخليفة: أتهزأ بي؟
قال الوزير: لقد أحسنت إلى العصفور يا مولاي حينما تركت له فرصة للحياة.
دخل أحد الشعراء على الوزير العراقي المهلّب، فكان يريد أن يقول له
-: كيف أمسيت أيها الأمير؟ فأخطأ الشاعر من الخوف، فقال: كيف أصبحت أيها الأمير؟
فقال الأمير: هذا مساء أم صباح؟ فسكت الشاعر قليلاً، ثمّ قال:
صبحتهُ عنـد المسـاء فقـال لي: ماذا الصباح؟ فظن ذاك مزاح
فأجبته: إشراق وجهك غرّني… حتــى تبينت المســاء صبــاح
أمّا الكاتب الانجليزي الساخر الشهير(جورج برناردشو) حين قال له كاتب مغرور:
–أنا أفضل مّنك، فإنّك تكتب بحثًا عن المال، وأنا أكتب بحثًا عن الشرف.
فقال له برناردشو: صدقت، كلّ منا يكتب عمّا ينقصه.
قالت ممثّلة إنجليزية مشهورة للأديب الفرنسي هنري جانسون:
– إنه لأمر مزعج فأنا لا أتمكن من إبقاء أظافري نظيفة في باريس!
– فقال على الفور: لأنك تحكين جسمك كثيرًا.
عندما سُئل الفيلسوف البريطاني برنارد شو عن صلعته الكبيرة وكثافة لحيته، أجاب سائليه : ” أنها غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع”. وهذا ما تفعله حكومتنا الحالية وما سبقها من حكومات، في تبديد أموال الدولة.
وأراد رجل إحراج الشاعر الكبير أحمد بن الحسين المشهور بالمتنبي، فقال له:
– رأيتك من بعيد فظننتك امرأة.
فقال المتنبي: وأنا رأيتك من بعيد فظننتك رجلًا.
اما الفكاهي الشهير (جحا ) فيقال: أنّه أقبل على قرية، فقال له أحد سكانها:لم أعرفك يا جحا إلا بحمارك!
فقال جحا: الحمير تعرف بعضها!
ورأى رجل امرأة قال لها : كم أنتِ جميلة!
فقالت له: ليتك جميل لأبادلك نفس الكلام!
فقال لها: لا بأس اكذبي كما كذبت!.
وهذا العباس بن عبد المطّلب عمّ الرسول(صلّى الله عليه وسلّم) إذ قيل للعباس: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: أنا أسنُّ ورسول الله أكبر مني.
ذهب أحد الثقلاء لزيارة عالمٍ مريضٍ، وجلس عنده مدّة طويلة ثمّ قال له:
–يا شيخ أوصني.
– فقال له الشيخ: إذا دخلت على مريض فلا تطل الجلوس عنده.
جاء عن حذيفة بن اليمان(رضي الله عنه) أنّه قال: دعاني رسول الله ونحن في غزوة الخندق فقال لي: اذهب إلى معسكر قريش فانظر ماذا يفعلون، فذهبت فدخلت في القوم والريح من شدّتها لا تجعل أحداً يعرف أحدًا.
– فقال أبو سفيان: يا معشر قريش لينظر كلّ امرئ من يجالس، خوفًا (من الدخلاء والجواسيس).
– فقال حذيفة: فأخذت بيد الرّجل الذي بجانبي وقلت: من أنت يا رجل؟
فقال مرتبكًا: أنا فلان بن فلان.
وأخيرًا تظهر لنا الصورة جليّة وبلا ريب أنّ أصحاب سرعة البديهة يملكون من الذكاء مالا يملكه غيرهم، فقد وهبهم الله تعالى قدرات جعلت منهم أمثلة رائعة يرويها الناس باستمتاع واستغراب؛ لحسن ردودهم الحاضرة دومًا، وتقديرًا واحترامًا لهذه العقول ذات التفكير الإبداعي التي أثرت البشرية بمواقفها المبهرة.
وسرهة البديهة لحظة استبصار مفاجئة تحضر في مواقف غير محددّة، وهي رديفة لحل العقدة في القصة، أو التعبير الرمزي في فن الكاريكاتور، تجعل السامع منبهرًا من عمق الرد المفاجئ وتُعدّ مؤشرًا على اليقظة الفكرية .
وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)