تعليم لا تربوي بقلم: د. يحيى أحمد القبالي

التربية الهادفة والتعليم المستدام

تعليم لا تربوي

بقلم: د. يحيى أحمد القبالي

يسير التعليم المدرسي بانحدار متسارع نحو القاع، وبفوضى خلّاقة تلهث خلف كلّ تقدّم تكنولوجي بتقليد أعمى وبخطى متسارعة ، تمّ تفريغ رسالة المدرسة من مضمونها بصفتها حاملة راية التغيير فعانت من الإفلاس القيمي، وأصبح شعار إعادة تأهيل أنصاف المعلمين العنوان البارز، ففاقد الشيء لا يعطيه، بل وإعادة تأهيل المدراء، وسادت أزمة الثقة بين التربويين وتأثروا سلبًا بإفرازاتها، لم تنته المدرسة بشكلها الفيزيائي ولكنها أصبحت جسدًا بلا روح، فانحراف بوصلة المدرسة عن القيم هو انحراف للمجتمع.

لا ندعو إلى الإنكفاء على الذات والتغنّي بماضينا ،ونصطف متمركزين حول ذاتنا ، وعدم إعطاء وجهة النظر الأخرى أيّ اعتبار كرد فعل نقوم به تجاه حالات الفشل التي تواجهنا ، بل يجب استرداد الذات والعمل على توكيدها، برفض السردية المبتذلة بأننا عالم ثالث عاجز عن التفكير البنّاء ، والابتعاد عن تخوين أي أفكارٍ إبداعية قادمة من الغرب بمخاوف غير مبررة، ولسان حالنا يقول: وراء الأكمة ما وراءها، ومن المنطق وضع أنفسنا مكان الطرف الآخر عند مناقشة أي قضية أو مسألة حتى نسلم من الانحياز المعرفي.

لا ندعو إلى مجتمع بلا مدارس أو تسريح جيش المعلمين بالرغم من حمولته الزائدة، وتوجيه امكانياتنا نحو اقتصادٍ متين أو قوّة عسكريّة مبالغ فيها، فبدون رأس المال الفكري لا حول لنا ولا قوّة، وليس محرّم علينا انتقاد الآخر، فهو حقّ يكفله لنا القانون وضمن سياقات أخلاقية معينة، أمّا أن نكون دائمو النقد لذاتنا فذلك يُعدّ اضطراب نفسي يقتضي العلاج، وللاوعي ينطبق على التعليم الحالي حيث أصبح التعليم عبارة عن فسيفساء مبعثرة ، وأحاجي وألغاز، تم تفريغه من مضمونه، لم تعد المدرسة حاملة راية التغيير وأصبح المنهاج الدراسي المزدحم وكأنه مسلّة فرعونية عصية على الفهم والاستيعاب، لا يقوى على فك رموزها سوى قلة من الطلبة، واتسع البون بين التربية وبين التعليم لصالح المعرفة .

وما زلنا نسمع بروباغندا مسؤولي التعليم في كلّ محفل يتغنون بإنجازات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، وكأنهم مفصومين عن الواقع باستنفار كاذب يزرعون الوهم ويعيشونه فالحالة النفسية لهم تصوّر الواقع كما يتمنوه ، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً.

دعونا نتصالح مع أنفسنا ونصف الوضع الحالي للتعليم ، فقد أصبح استنشاق المركز الوظيفي وهضمه وعصره وشربه هو الهدف، وأصبح المعلّم مجرّد ظل ( خيال مآتة) يلهث وراء الترقيات الزائفة يرى نهاية النفق بتقاعد يضمن له أسباب الحياة، وانهدم جدار الاحترام المتبادل بينه وبين الطلبة، ونأى التربويون بأنفسهم جانبًا بعيدًا عن حمل راية التغيير ، وخسر المجتمع نصفه المثقف، ونادت كثير من المؤسسات بل حتى أولياء الأمور بالتعليم عن بعد؛ لأنّ المدرسة بنظرهم لم تعد سوى محطة مرور لمهنة ما.

ولم نعد نسمع من المدرسة غير الشكوى المتكررّه سواء منها الحكوميّة أو الخاصّة من جور النظام التعليمي وروتينه القاتل وكمّ التكليفات، وضعف الناتج التعليمي للطلبة، كمن يبذر في البحر.

نحن أي المجتمع مع كلّ تغيير مدروس يصب في مصلحة التعليم دون تكييف أو تحريف، تصيغه أيدٍ أمينة واضعة نصب أعينها مصلحة الوطن والمواطن، تعيد القيم المجتمعية التي تبخّرت إلى سالف عهدها بثوب جديد يتناسب مع معطيات الحاضر دون التنازل أو التخلّي عن الأساسيات : كوحدة المجتمع، وبناء الأسرة، والامتداد التاريخي للأمّة.

ولو تتبعنا التعليم كمهنة مقدّرة اجتماعيًا منذ نشأتها حتى يومنا هذا ، لوجدناها فقدت بريقها ورونقها كمهنة وتلاشت قيمتها كرسالة، وما هذا الحال إلًا امتداد لتخلّي المدرسة عن زرع وتنمية القيم في نفوس النشء وأصبح على المعارف شغلها الشاغل ، فأصبح التعليم لا تربوي واتخذ صفة التعليم البنكي واختبارات معتمدة كليًا على الحفظ والاستظهار، وابتعدت الأهداف السلوكية (الخطة اليومية) عن الأهداف الوجدانية (الانفعالية) ،وحتى الأهداف المعرفية لم تعد الحصة الدراسية تتسع لتحقيقها؛ لضعف إدارة المعلمين لصفوفهم بفعل الاضطرابات السلوكية والانفعالية التي يعاني منها أكثر الطلبة وعلى رأسها التنّمر ، والمشاكسة، حتى وصل الأمر إلى حد التطاول على المعلمين، دون قوانين صارمة لحماية المعلّم أو صون كرامته.

ومنذ أن اختل ميزان التربية والتعليم لصالح التعليم ، أصبح المجتمع المدرسي بلا أمان، فأصبحنا نسمع حوادث القتل الجماعي حتى في أرقى الأمم وارقى المدارس والجامعات بل المجتمعات أيضًا، وهناك إحصائية على سبيل المثال لا الحصر لحوادث القتل في الولايات المتحدة الأمريكية تجاوزت حوادث القتل المدرسي منذ عام( 2005 م) حتى عام( 2023 م) إثنى عشر حادثًا راح ضحيتها مئات الطلبة ومن بينهم أعضاء هيئة تدريس.

لقد عفا الزمن عن بداغوجيا التعليم ،وتعني مرافقة المعلم للطالب في كافة شؤونه مرشدًا وموجهًا ومعلمًا ومغذيًا للقيم ،يسير مع الطالب كظله، فالتربية والتعليم صنوان لا ينفصلان ينتمي كل ّمنهما للآخر انتماءً عضويًا ، يموت أحدهما بفصله عن الآخر، ومن البديهي أن جدران وأبواب ومقاعد وما تحتويه المدرسة غير قادر على التعليم وغرس القيم، وحده المعلّم القادر على تغيير العقل الجمعي ، ومحو الفائض من المعارف الفاسدة، وشق طريق التنوير للأجيال ، فرفقًا بالمعلمين.

وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)

Massad CRM

Loading...
Play ButtonPlay Button

You May Also Like