المناهج بين الكفاية العالمية والتغير العولمي المتسارع
بقلم الدكتور محمود المسَّاد
مدير المركز الوطني لتطوير المناهج
لا بد لأي مناهج وطنية إلّا وأن تستجيب لموجات التغير المتلاحقة والمتزامنة الثقافية والتكنولوجية والبيئية والسياسية التي تقع؛ مُحدثة التغيير على المستوى العالمي والمحلي بأشكال متفاوتة، الأمر الذي يؤثر إيجابًا أو سلبًا على جيل المستقبل الذي يتعلم وينمو بخبراته ومهاراته وقيمه، فيكون معها قادرًا على التكيف والنجاح في حياة ظروفها متغيرة ومشكلاتها معقدة وآفاقها محدودة ضيقة، أو غير قادر على التكيف فينطوي ويحجم عن مواجهة التحديات وتكسره أبسط المشكلات، ولا يرى أمامه أي منفذ لفرج أو أمل لحياة مفرحة.
إن دور المناهج في صناعة الإنسان تتجلى في الموازنة بين التكيف الناجح، والانغلاق الذي يُفضي للانطواء والفشل، بمعنى أن استجابة المنهج الفعّالة لكل هذه المتغيرات تساهم في تمكين المتعلمين من التخفيف من أذى هذه المتغيرات وآثارها السلبية عليهم وعلى حياتهم، مقابل إعدادهم عالميا بما يُمكّنهم من إنتاج الحلول الإبداعية القائمة على تعدد الخيارات والأفكار، وتشكيل أطر التفكير المنفتحة المرنة لقبول الآراء الأكثر تميزًا بغض النظر عن مصدرها، والتواصل المفتوح، والانفعال بالعمل للمصلحة المجموع (المجتمع).
إن المجتمع الأردني مجتمع متنوع الثقافات، وزاد في تنوعه الهجرات المتلاحقة والانفتاح على العالم. وهذا ما يفرض على المناهج جملة من الأسباب الإضافية للاستجابة وتمكين المتعلمين وتقوية قدراتهم على التعلم من أناس من ثقافات أخرى وقد يتحدثون لغات أخرى، أو يحملون قيمًا وعقائد وعادات أخرى، ما يتعزز في عقولهم أن هذا التنوع مزايا وليست تحديات أو تهديدات.
إن التمكن من الكفاية العالمية يعزز الهوية الوطنية والإطار المحلي الثقافي، ولا يهددها أو يضحي بأي عنصر من عناصرها، وبالعكس فإنه يزيد بتعظيم المتعلم لهويته وثقافته ولغته عندما يقارن كل ذلك مع الآخرين، لكن المهم أن تستمع من أجل الفهم وليس من أجل إصدار الأحكام، والبحث عن نقاط تقارب وجوانب مشتركة، وإعمال العقل في البحث عن المزايا والإيجابيات في تناول الأفكار وانتقاء ما يُفيد ويدعم العمل في الإطار المحلي.
ولفهم معنى الكفاية العالمية بشكل أفضل قبل عرض التوضيحات التطبيقية لهذا المفهوم، نعرض له كما عرّفته بعض المنظمات العالمية المهتمة به التي طوّرت برامج من أجل التعريف به، أو إدماجه في المناهج الوطنية للدول. فقد عرّفت به اليونسكو على أنه توجهات ابتكارية لمساعدة الطلبة على مواجهة تحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية وبيئية معقدة، لا يمكن فهمها أو حلها محليا، وتتطلب – بدلًا عن ذلك – استجابة تشاركية عِبر الحدود.
كما عرّفه مركز التربية العالمية – في جمعية آسيا – بأنه مركب من أربعة أبعاد لتقصي العالم وإدراك المنظورات وتوصيل الأفكار والمبادرة إلى العمل، ويتفق هذا التعريف تمامًا مع ما حددته منظمة (OECD) من جوانب أربعة لهذا المفهوم يتمتع بها الشباب / الطلبة الذين يتمكنون من هذه الكفاية، وهي(1):
يتقصون العالم الذي يتجاوز بيئتهم القريبة من خلال فحص قضايا ذات مغزى محلي وعالمي وثقافي.
يدركون ويفهمون ويقدرون منظورات الآخرين، ووجهات نظرهم عن العالم.
يوصلون الأفكار على نحو فعّال لجمهور متنوع، بالانخراط في تفاعلات مفتوحة وملائمة وفعّالة عبر الثقافات.
يبادرون إلى العمل من أجل الصالح العام والنحو المستدام محليا وعالميا.
وقد بادرت المنظمة (OECD) إلى إضافة تقويم للكفاية العالمية لبرنامجها الدولي في تقويم الطلبة 2018 (بيسا) والذي يعدّ بحد ذاته مسحًا دوليّا يهدف في كل ثلاث سنوات إلى تقويم النظم التربوية في العالم بوساطة اختبار مهارات الطلبة في عمر الخامسة عشرة، وفي ساعتين من الزمن وعبر 72 دولة بواقع عينة من نصف مليون طالب تمثل 28 مليون طالب / طالبة.
وقد عرّف هذا البرنامج التقويمي (بيسا)(2) الكفاية العالمية بأنها “هي القدرة على فحص قضايا محلية وعالمية وبين ثقافية، لفهم وتقدير منظورات الآخرين ونظرتهم إلى العالم؛ والانخراط في تفاعل منفتح، وملائم وفعّال مع أناس من ثقافات مختلفة، والعمل للصالح الجمعي والتنمية المستدامة“.
ومن الواضح أن هذا البرنامج التقويمي يرمي إلى الكشف عن مدى استعداد الطلبة لفحصهم قضايا محلية وعالمية، وبين ثقافية معاصرة ذات صلة بحياتهم، والعيش في مجتمعات متعددة الثقافات، وتحديد الممارسات الناجمة في التربية العالمية، واستثارة دافعية المربين/ المعلمين للسعي نحو الكفاية العالمية
(OECD): منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: وهي منظمة دولية تهدف إلى التنمية الاقتصادية وإلى انعاش التبادلات التجارية، تتكون المنظمة من مجموعة من البلدان المتقدمة التي تقبل مبادئ الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق الحر، (عدد أعضائها 38 دولة (2021) ومقرها فرنسا.
Pisa : البرنامج الدولي لتقييم الطلبة، يتبع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والتي تعتبر المعيار الدولي الرئيس لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة.
على نحو أكثر عمقًا واتساعًا في القضايا والمنهجية. وهنا يبدو جليا أن الموضوع يتعلق بالأساس في تعلم الطلبة، وتعليمهم عن طريق التساؤلات المرتبطة بالذات المتعلمة من مثل: لماذا يهمني هذا الأمر؟ ولماذا يهم مجتمعي وموقعي الجغرافي؟ ولماذا يهم العالم؟ ومن ذلك يبدو أن الموضوع يدور حول الربط بين ما هو محلي، وما هو دولي.
مما سبق يمكن تسليط الضوء على أبرز الأفكار التي تجعل من الكفاية العالمية أسهل في الفهم، وأيسر في التناول، وأسرع للتطبيق على شكل قضايا ومبادرات ومشروعات تدمج في المناهج الوطنية يتعلمها الطلبة بطرائق تعلم فاعلة تحقق أهداف هذا المنهج في بناء الشخصية المرنة المنفتحة صاحبة القدرات العالية في التفكير والتواصل والحوار وتفضيل الصالح العام.
وهذه الأفكار هي:
تُعدّ العولمة والانفتاح وما رافقهما وزاد في تأثيرهما وتأثرهما عالميًا من تطور تكنولوجي وتطور في وسائط الاتصال المدخل الرئيس لضرورة إعداد المتعلم العالمي (المواطن العالمي)، الذي يقف على أرضه ويتعايش مع مشكلاته ويفكر بعمق في أسباب ومترتبات هذه المشكلات عالميا واختيار بدائل الحلول المبدعة تأسيسًا على هذا الفهم العالمي.
إن الحدود المصطنعة بين الدول لم ولن تحول دول إقليمية وعالمية الظواهر والمشاكل والقضايا شئنا ذلك أم أبيناه، فقضايا المياه والبيئة والفقر والسلام … وغيرها الكثير هي قضايا ذات امتداد عالمي في الأسباب والحلول لا ينفع معها التقوقع والانكفاء على الذات.
تنقل البشر وعيشهم في المنطقة الواحدة من العالم، أي منطقة بدون تحديد، تجعل من الاختلاف الثقافي سمة عامة، كما تجعل من العيش المشترك ضرورة لاستمرار الحياة. وهذا ما تقصده من التعدد الثقافي أو اختلاف الثقافات في المنطقة الواحدة. من هنا يظهر لزوم العمل على إعداد المتعلم لحياة ناجحة في مجتمع محلي أو عالمي متعدد الثقافات، بمعنى تركيز المنهج الوطني على تمكين المتعلمين من قدرات ومهارات ومعارف واتجاهات تكيفية تضمن له سرعة التأقلم مع المتغيرات وأن يحيا حياة ناجحة.
اتباع المنهج الرباعي في دراسة القضايا والظواهر عبر امتداداتها الطبيعية المحلية العالمية لتصبح من خلال التطبيق العملي والانخراط المنفعل في التعلم منهجًا مستمرًا في كل المواقف، وهذا المنهج هو (تقصي ← فهم منظورات الآخرين ← الانخراط والتواصل الفعّال ← المبادرة للعمل الجمعي).
ولمزيد من التوضيح وأخذًا بالجانب التطبيقي العملي أعرض بعض المفاهيم التي يمكن للمعلمين والطلبة الاسترشاد بها في الحوار حول هذه المنهجيات وتحقيق النتاجات المطلوبة فهمًا وتمثلًا وسلوكًا. (في المقال التالي)