البناء على الأقوى: إرهاصات المظهر وحقيقة الجوهر

البناء على الأقوى إرهاصات المظهر وحقيقة الجوهر

البناء على الأقوى: إرهاصات المظهر وحقيقة الجوهر

دخلف عليمات

المظهر وحقيقة الجوهرتحمل ممارساتنا الاجتماعية عموماً والتربوية بشكل خاص جينات داروينية ومادية مقيتة، تم استلهامها خفية متوارية في النظريات والنظم والممارسات التي جرى استيرادها من ثقافات تميزت عنا وتفوقت علينا في مساراتها وسيروراتها الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والعملية والتقنية. فكل إنتاج – فكرياً كان أو مادياً – يحمل في ثناياه أفكاراً وافتراضات مضمرة تشكل جوهر الإنتاج وشيفرته الوراثية، وتحدد إمكانات سيروراته واتجاهات تطوره بحيث تظهر تلك السيرورات انزياحات عن أصل سابق نحو حالة كمالية مثالية فاعلة ومناسبة في زمنها وظرفها. ويجدر بالمخطط التربوي أن يفكك الممارسات والنظريات المنقولة لا من حيث سياقها الاجتماعي والثقافي، بل من جهة جيناتها وافتراضاتها المضمرة فيما يخص نظرتها للإنسان وماهيته ودوره في المجتمع، والكيفيات التي يتم وفقها إعداد الإنسان لهذا الدور.

وتتمظهر عملية النقل الترانزيتي للنظريات والممارسات دون وعي بمضمراتها فساداً في التصور وتشوهاً في السلوك الصادر عنه من تنظير وتخطيط وتصميم وتطبيق ودعم وتقويم، فلا زلنا نشجع الناشئة على القراءة بأن أوّل فعل أُمِر النبي عليه السلام به هو اقرأ، مشيرين بذلك إلى مهارات فك الخطباعتبارها مبتدأ القراءة. ولم نوضح لماذا لم يلتزم النبي عليه السلام بهذا المعنى وهو الذي يطبق أمر الله على تمامه. أم أن فك الخطغير مقصود البتة في هذه الكلمة (اقرأ)؟ أو أن قرأهي الجمع والربط سواء بالنظر (في منظور أو مسطور) أو التفكر أو الاستماع؟ وأن فك الخطعملية ميكانيكية لا علاقة لها بالقراءة ذاتها إلا من جهة تمكين الفرد على التعامل مع مسطور يكون – لاحقا – ميداناً للقراءة؟ وتحفز إجابات هذه الأسئلة مسارات ومقاربات متباينة لمفهوم القراءة من ناحية وبيداغوجيتها (تدريسياتها) من الناحية الأخرى.

ومن بين المضمرات المنقولة العابرة للنظم التربوية النظرة للفرد باعتباره كيانا بيولوجيا مادياً قابلاً للتشكيل وفق معايير أداء عليه إتقانها ويقيم وفقاً لبعده أو قربه منها، فالجميع يسير نحو اتقان تلك المعايير في معارفه ومهاراته وما يستطيع إنجازه، فأصبح المتباين في طبع البشر مجالاً للتوحيد خدمة للمجتمع ومعاييره وحاجاته، في حين أصبح الثابت (القيم الإنسانية) متبايناً فلكل الحرية في اكتسابه وتمثله والتعبير عنه. فجاء تعلم القرائية (القراءة والكتابة) غاية تربوية في حد ذاتها، ووضعت لها المعايير صفاً بصف، وصممت لأجلها البرامج في التعليم والتعلم والتقويم والتدخل والتنمية المهنية واستحداث الوظائف وغيرها كثير في مسيرة التطوير التربوي عبر العقود المتلاحقة. وأرسى ذلك تصنيفاً للمتعلمين إلى متقن، ومقترب من الإتقان، ومتعثر وما إلى ذلك من تصنيفات فرضناها على المتعلمين بعد إجبارهم على السباحة عكس تيار ما يتقنون وما يقدرون على فعله، بل عكس طبيعة العقل البشري ذاته. ومن الجدير ذكره أن كل تلك الممارسات لم تحل المشكلة حتى اللحظة، ولا زالت الفروق بين القدرات القرائية للمتعلمين تقض مضاجع العاملين في هذا الميدان حتى يوم الناس هذا، ولا زال المتعلمون عرضة للتصنيف وفق طيف من التقديرات التي يشير جزء منها إلى فشلهم بعبارة أو بأخرى استناداً إلى معايير وتفضيلات لا علاقة لها بمكامن قوة هؤلاء المتعلمين.

كما أن من بين المضمرات المنقولة فكرة السيطرة على الطبيعة وقهرها وتشكيلها وفق معاييرنا بما فيها الطبيعة البشرية، لا وفقاً لما جُبِلًت عليه. وعليه، لا بد لنا من إرساء مفهوم التسخير واستثماره والبناء عليه في التربية والتعليم خصوصاً وفي التعامل مع الطبيعة بتجلياتها كافة؛ فالتسخير – في حقيقته –انقياد بيسر مع عدم مقاومة مع ما يشتمل عليه ذلك من خفة وسهولة، ولا يتحقق ذلك إلا في استثمار جوانب القوة التي جبلت عليها طبائع الأشياء، ومنها – على سبيل المثال – ما جبل عليه الإنسان من استعداد للاستماع والكلام، في حين تعتبر القدرة على القراءة والكتابة إضافات يتم تحميلها على دماغ متكلم مستمع في آن. ويأتي المتعلمون إلى المدرسة وهم أقدر بكثير على معالجة الأفكار والقضايا وموضوعات التعلم من خلال المشافهة (حديثاً واستماعاً) منهم من خلال القرائية (قراءة وكتابة)، إلا أن النظام التربوي يصر على البناء على الأضعف وكأن القراءة والكتابة هدفين بذاتيهما، ما يفوت فرصة تنمية العقل وإطلاق خيال الطالب في معالجة القضايا والحديث عنها وتصور نهايات مختلفة للأحداث بما يسهم في تربية الفرد بعيداً عن الإبداع لا نحوه.

وتشير الدراسات التي رصدت قدرة المتعلم في استيعاب المسموع واستيعاب المقروء إلى وجود فجوة لا تتلاشى إلا في المرحلة المتوسطة من التعليم الرسمي (Stricht and James, 1984) كما في الشكل أدناه، ما يعزز الدعوة لاستثمار قدرة المتعلم في استيعاب المسموع قصد توظيفها في تمهير المتعلم في موضوعات التعلم المختلفة وتوفير وقت أطول للتدريب على التأمل والتفكر وإطلاق الخيال وتطبيق مهارات التفكير النقدي والابتكاري. ولا يصعب علينا ذلك في ظل سيادة وسائط متعددة غير المادة المسطورة والتي يمكن توظيفها في استيعاب المسموع والمرئي والحديث عن محتواها بل وإنتاج الوسائط للتعبير عن التعلم.

المظهر وحقيقة الجوهر1

من هنا، يمكن للتربويين تحرير تعليم المهارات العليا من ربق وسيط التعلم (المادة المسطورة فقط) مع ما يعترضها من ضعف في مهارات القراءة والكتابة يستغرق معالجتها وقت التعلم على حساب مهارات يمكن ترقيتها بوسائط أخرى. كما يحتاج متعلم العربية – والذي يأتي المدرسة بلغة محكية لا تتطابق مع الفصيحة المقصودة في التدريس الرسمي – إلى وقت أطول في الاستماع إلى الفصيحة من وسائط متعددة حتى يسهل عليه اكتساب طبيعتها، وتألف أذنه موازينها وقواعدها بما يسهل عليه الحديث بها بفعل الاكتساب الناتج عن التعلم الإحصائي (Statistical Learning) الذي ثبتت فعاليته في اكتساب اللغة تشرب خصائصها.

ويمكن تأجيل تعليم القراءة والكتابة أو إعادة ترتيب معايير اكتسابها وفق قدرات الطلبة بعد إحداث توازن فعال بين مهارات اللغة، واستثمارها بما يراعي مبدأ البناء على الأقوى لا على الأضعف، وتوفير الوقت لإطلاق طاقات الطلبة كل فيما يتقنه أو يبدو بارعاً في أدائه أو تعلمه.

إقرأ المزيد لمقالات التربويون العرب

You May Also Like