بقلم الدكتور يحيى القبالي هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد؟

بقلم الدكتور يحيى القبالي هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد؟

هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد؟

       يعتبر (جورج كونتس، 1974م) مبتدع نظرية : إعادة البناء الاجتماعي، والذي أمضى معظم عمله المهني أستاذًا للتربيّة في كليّة المعلمين بجامعة (كولومبيا ) وخبيرًا في التعلّم السوفييتي، ومؤلف لكتب عديدة من بينها كتاب: (هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد؟) والذي يستشهد فيه كقضية للنقاش: “بأن على المدرسة والمدرسين أن يؤسسوا الأفكار والقيم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بدلاً من أن يكونوا انعكاسًا لها”

واورد في كتابه :… أنّ المعلمين يجرؤون على بناء نظام اجتماعي جديد من خلال عملية معقّدة ولكنها ممكنة بالتأكيد، وأوضح أنّه من خلال التعلّم فقط يمكن تعليم الأطفال من أجل الحياة في عالم تحول تحولاً كبيرًا  بسبب المتغيرات الهائلة في العلوم والصناعة والتكنولوجيا

وأصرّ على أنّ المعلمين المسؤولين لا يمكنهم التهرّب من مسؤولية المشاركة بنشاط في مهمة إعادة تشكيل التقاليد الديموقراطية ، وبالتالي العمل بشكل إيجابي تجاه مجتمع جديد

على إثر ذلك هاجم المعلمون المحافظون فرضية تأكيّد (كونتس) ، وتراجع في الوقت نفسه التربويون التقدميون عن انتقاده لممارساته

ولعل القارئ يستهجن من طرح هذا الموضوع في هذا الوقت الذي مضى على نشره أكثر من( 70 )عامًا حيث تم نشره في عام (1942م)، إنّ ما يجعل طرحه ضرورة هامة من ضروريات الحياة في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى هو تردّي الجانب القيمي لدى الأفراد سواء على مستوى محلي أو عالمي حيث الانحلال الخُلقـي والقيمي المتمثّل في انتشار الجريمة والفساد وضعف الضمير الإنساني وتغليب المـصلحة الخاصـة، وتمكّن الدّول  القويّة واستنزافها لخيرات الدّول الضعيفة،. فبرغم التقدّم العلمي والتكنولوجي فقد أصبحت المادة الشغل الشاغل لهؤلاء النفر مـن النّاس على حساب القيم والمبادئ من منطلق تصوراتهم الخاطئة بأنهم يحققون سعادتهم بذلك

وبهذا العنوان العريض (هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد؟ )يعتبر بحق إعلانا شجاعًا ، حيث عُرضت هذه المقالة على شكل ثلاث أوراق عمل في اجتماعات تربويّة وطنية تم عقدها في شهر شباط من عام (1932م) لمناقشة قضايا تتعلّق بالتّعليم ، وتم جمع هذه الأوراق على شكل نشرة قامت بإصدارها إحدى دور النشر في ذلك العام

وما زال الواقع التربوي والاجتماعي متشابها منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا بالرغم من عقد آلاف المؤتمرات في كافة أقطار المعمورة لتغيير واقع العمليّة التربويّة إلى الأفضل،  ولا أدّل على ذلك تلك الدعوة التي تبنّاها المركز الوطني لتطوير المنهاج في الأردن في الآونة الأخيرة وعلى رأسه الأستاذ الدكتور (محمود المسّاد)  لتجويد التّعليم

ومهما اختلفت الدعوات المتلاحقة إلى تطوير وتجويد التّعليم فإن الدافع وراءها قد يكون واحدًا، وهو عدم الرضى عن واقع التّعليم القائم ومخرجاته

وعلى الواقع التربوي مسؤولية تحرير نفسه من تأثّر الطبقة ، وأن يواجه بشجاعة و توازن كل قضية اجتماعية ، وأن يكون على تماس مباشر مع الحياة بكل واقعيتها، وأن يكوّن علاقة عضويّة مع المجتمع وأن يطوّر نظرية واقعيّة شاملة للرفاه الاجتماعي، ويتسم برؤية فاحصة وقائمة على التّحدي لمصير الإنسانيّة ، وبعبارة واحدة : لا يستطيع المجتمع أن يضع ثقته في مدرسة تتمحور حول الطفل  ويقودنا هذا الأمر إلى القضية  الأكثر إثارة للجدل في التربية حول طبيعة ومدى التأثّر الذي يجب أن تمارسه المدرسة على نمو الطفل وتطوره

لقد نجح المدافعون عن الحريةّ الكبيرة فيما دعوه حقوق الطفل ، في حين يرى آخرون ضرورة السيطرة الكاملة من قبل المعلمين والنّظام التعليمي على سلوك الأطفال، وإذا وضعنا أنفسنا في موقع الاختيار لا يمكن حصر اختيارنا في هذين النقيضين ، وعلى الفريقين عدم فرض وجهة نظرهما من خلال خلق بعض الذرائع

وبالرغم من مرور أكثر من (70) عامًا على هذه المقالة أو الدعوة – إن جاز التعبير -، نجد أنّ مدارس اليوم والنّظام التربوي برمته لم يستطع تحقيق كل الطموحات التي أوردها كاتب المقالة من حيث سعي المدرسة إلى تشكيل نظام اجتماعي يحقق الرفاه لكل أبناء المجتمع ، فالواقع غير ذلك، حيث نرى أنّ المشكلات الاجتماعية كثيرة ومتنوعة وتصل درجة الخطر أحيانًا رغم الضوابط والقوانين السّارية، وربما يعود السّبب في ذلك إلى إعطاء المدرسة أو تحميلها دورًا أكبر من دورها المطلوب، والتقليل من أدوار المؤسسات الأخرى ذات الصلة بالتنشئة الاجتماعية، وأخص بالذكر وسائل الإعلام بأنواعها، والأسرة ، وجماعة الرفاق، والمسجد… أو ربمّا يعود ذلك إلى عدم توفر الظّروف الملائمة لقيام المدرسة بعملها سواء أكانت ظروفاً نابعة من داخل المدرسة أم ظروفا خارجية تتعلّق بالبيئة المحيطة بها

والسببان لهما نفس الأثر ، فالمهمات الملقاة على عاتق المدرسة أكبر من أن تتحملها وحدها فلا بد من تكاتف جميع الجهات يداً بيد لتحقيق التغيّر المطلوب والذي يعود بالفائدة على كل فرد من أفراد المجتمع، ولعل من الظّلم تحميل المدرسة كلّ هذا العبء كي تضع حلولاً لكلّ فئات المجتمع وتغطية عيوبه، من مثل: تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة والديموقراطية ، وكذلك وضع الرّجل المناسب في المكان المناسب ، فالمدرسة جهة تربويّة ذات رسالة هدفها إيجاد المواطن الصالح النافع لنفسه ووطنه، وليست جهة حارسة للدستور والأمن والقانون، وإن افترضنا جدلاً هذا الأمر، فهل تسمح باقي مؤسسات المجتمع للمدرسة أن تقوم بهذا الدور وأن تكون لاعبًا أساسيًا في السّاحة أو ربما لاعبًا وحيدًا؟

وحتى نكون منصفين فإن دعوة الكاتب (جورج كونتس) إلى حيادية المدرسة وعدم تدخلها في سلوك الطفل بشكل مباشر  دعوة جانبت الصّواب ، إذ يجب أن يتعدّى دور المدرسة إلى غرس القيم وتشكيل الاتجاهات المرغوب فيها ، كما أنّ دعوته إلى إبعاد المدرسة عن المسرح السياسي كانت فكرة غير مناسبة خاصة في عالم اليوم ، فمن الضروري أن يطّلع الطفل على كل ما يدور حوله بشكل ميسّر يناسب قدراته ومستواه لكي يستطيع أن يتعايش مع مجتمعه الذي هو جزء منه بل وعماده وربما صانع قراره في المستقبل القريب

ولعل دعوة الكاتب إلى دمج الأطفال في محيطهم الاجتماعي وضرورة ربط المدرسة بالمجتمع وأهمية إعداد المعلمين وتأهليهم يليق بالدور المنوط بهم وبالأهداف المتوقعة منهم ، الأمر الذي من شأنه أن يحقق ما رمى إليه ( كونتس) : من أنّ مخرجات التّعليم يجب أن تكون مميّزة ، وأن تلبّي حاجات وطموحات المجتمع ، ونجد أنفسنا طوعًا متفقين معه مرة أخرى على ضرورة إطلاع الأطفال على بعض ممارساتهم الخاطئة وإعلامهم بها ، إذ أنّ ذلك أفضل من تجاهلها ؛ لأن معرفة الأطفال للخطأ تجعلهم يتجنبونه في المرات القادمة من خلال التوجيه والإرشاد والتعزيز

وعلى الرغم من الدعوات الإصلاحية للتعليم إلا أن الأنظمة التربوية ما زالت تعاني من

 النظر إلى المدرسة بأنّها أقوى المؤسسات التي لديها القدرة على تشكيل المجتمع

وجوب حيادية المدرسة وعدم تدخلها في توجيه الأطفال نحو سلوك ما

اعتبار التربية مقدّسة من حيث اتصافها بالثبات ، وأنّ التعليم جوهر نقي لا يتغير، فالتربية صالحة لكل زمان ومكان

أنّ التعليم بمراحله وأهدافه المختلفة  هو بالأساس عملية ذهنية فكرية بحتة

اعتبار أنّ الهدف الأسمى للتربية هو :تخريج فرد متميز حاصل على أعلى درجات التحصيل الأكاديمي كمعيار وحيد للنجاح

 الاعتقاد بأنّ الطفل يعيش في عالم خاص به منفصل عن محيط الكبار، وأي تدخل من الكبار يعتبر مرفوضًا ويُعد انتهاكًا لحريته

 الاعتقاد بتجاهل السلبيات التي تبدر من الأطفال أفضل من إعلامهم بها

 أنّ التعليم الصحيح والمتميز يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة ومسرح القوى الاجتماعية، وأن يسعى لتحقيق غايات خاصة به فقط

أنّ التعليم واجب المدرسة فقط وأنّ نجاح أو فشل الطالب منوطا بما تعلّمه داخل أسوار المدرسة

ما تقدّم يدفعنا إلى القول بأنّ على التربويين أن يضّيقوا الفجوة بين المدرسة والمجتمع  ويشركوا كافة أطياف المجتمع في صياغة أهداف التربية ومناهجها ، ويكسبوا المتنفذين وأصحاب القرار إلى جانبهم دون تنازلات من شأنها الاخلال بالعملية التعليمية

ولكن يظهر لدينا تساؤل بصورة ملحّة وأكثر جاذبية ، ألا وهو : أين دور الجامعات في بناء نظام اجتماعي جديد؟

وعلى ما تقدّم يمكننا إعادة صياغة عنوان الكتاب (هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد؟ ) إلى عنوان آخر. هو: ( هل تجرؤ الجامعة على بناء نظام اجتماعي جديد؟)

ويبقى السؤال مطروحًا للمناقشة

انضم إلينا على صفحة فيسبوك

You May Also Like