المعلّم الأردني والفصام الوظيفي
The Jordanian teacher Job schizophrenia
بقلم: د. يحيى أحمد القبالي
منذ بزوغ فجر تأسيس المملكة الأردية الهاشمية والمعلّم يعيش في عصره الذهبي متربعًا على قمّة الاحترام والتوقير، فقد حظي برعاية ملكية سامية منقطعة النظير، وكان الاهتمام بالشأن التربوي في مقدمة الاهتمامات للدولة، فقد كان النظام السياسي على وعي تام ّأنّ التعليم أفضل استثمار في ظل شح الموارد المتوفرة على سطح أرض الأردن وباطنه، وبالرغم من الأوضاع السياسية غير المستقرة في الوطن العربي خاصة والإقليم بوجه عام إلّا أنّ الأردن بقي محافظًا على مكانته التعليمية على الأصعد كافة المدرسية منها والجامعيّة، فبقي المعلّم الأردني الرافد المفضّل لدول الخليج العربي وله الأولوية لما يتمتّع به من مهنية مرتفعة وتأهيل مميز، ولكن ثمة متغيرات دخيلة طرأت على مهنة التدريس جعلت المعلّم يعيش على هامش الحياة باغتراب داخلي بين متناقضات على أرضية قانونية رخوة جعلته كريشة في مهب الريح، ونعني بالاغتراب الداخلي فصام الوظيفة( Job schizophrenia) ومعروف بأنّ الفصام schizophrenia MSD)) هو اضطراب عقلي شديد يتميز بفقدان الاتصال بالواقع و يُفسر فيه الفرد المصاب الأشخاص والواقع بشكل غير طبيعي ، وقد ينتج عن الإصابة بهذا الاضطراب مجموعة من الهلوسات والأوهام تعرقل أداء الوظائف اليومية للفرد، ويمكن أن يسبب الإعاقة.
من هنا اشترك مصطلح فصام الوظيفة مع مفهوم الفصام في علم النفس بالخصائص نفسها، حيث لم يعد المعلّم مسيطرًا على أدائه اليومي بسبب كثرة المهام والواجبات الملقاة على كاهله، هذا من جانب ومن جانب آخر لم يعد قادرًا على تلبية متطلبات الحياة بسبب ضعف المردود المادي لمهنة التدريس، فنجده خارج الدوام المدرسي باحثًاعن عمل ينقذه من براثن الفقر والعوز مما كان له أثر سلبي على تطوير ذاته ومحدودية عطائه، وقد يكون لهذا العمل الإضافي الأولية فيبذل قصارى جهده ويركز جل اهتمامه عليه تاركًا النزر اليسر من هذا الاهتمام لمهنته كمعلّم، ولعل كثير من هذه المهن–مع احترامنا لأصحابها– لا تليق بمركز المعلم ورسالته، وإذا ما أشحنا بوجوهنا عن هذا الجانب نجد جانبًا آخر من حياة المعلّم يلفت انتباهنا إليه ألا وهو الجانب الاجتماعي وبخاصة جانب الأسرة، فبمجرّد عمل الفرد بمهنة واحدة فهو بالكاد يستطيع أن يفي بواجباته الاجتماعية والأسرية فما بالك إذا ما عمل خارج الدوام المدرسي بمهنة أخرى!
وقد تطغى بعض سلوكات المهنة الإضافية للمعلّم على سلوكه داخل غرفة الصف والمرافق المدرسية، وربما مارس بعض المعلمين التسويق لهذه المهنة في مجتمعه المدرسي فتكون مثل لهذه السلوكيات الدخيلة على البيئة المدرسية معاكسة تمامًا لما تتطلبه المواقف التدريسية من احترام وتبجيل وهنا تظهر بشكل جلي مظاهر الفصام الوظيفي للمعلّم.
ويعلم الجميع بأنّ الدوافع وراء اختيار مهنة التعليم يكمن في:
1-معدّل تحصيل الطلبة في الثانوية العامّة.
2-الإدمان الوظيفي والعطل.
3-الاهتمام بالمهنة والرغبة في التدريس,
4-فرصة خدمة الآخرين.
وقد يكون لهذه العوامل آثار ايجابية على أداء المعلّم في بداية سنوات عمله ولكن في مراحل متقدّمة يحمل المعلمون تصورات مختلفة تجاه الرضا الوظيفي أو البقاء في المدرسة ذاتها.
وفي إحصائية معتمدة كانت نسبة من خطط لترك مهنة التعليم خلال السنوات الخمس القادمة من خدمته كمعلّم (60%) من مجمل معلمي المملكة.
ولو تفحصنا حياة المعلمين سواء الذكور منهم والإناث الذين مازالوا على رأس عملهم فإنّ التذمّر والتسخّط وعدم الرضا الوظيفي هو عنوان الحوار بينهم لما له علاقة بواقعهم المهني بالرغم من أنّ نسبة المعلمات الإناث بلغت في عام (2023م) مانسبته (69.5%) ، وفي المدارس الخاصة يشكلن (90%) وهذا يعطينا مؤشرًا آخر قد يرقى إلى درجة الفصام الوظيفي بين المعلمات من خلال توزيع مهامهن بين المدرسة والمنزل، فلا حققن استقرارًا وظيفيًا ولا أسريًا ، وأظهر التقرير الإحصائي السنوي لعام (2021م) والصادر عن دائرة الإحصاءات العامة بأنً أعداد المعلمات والمعلمين تراجعت بنسبة( 7.7% )خلال العام الدراسي (2020-2021م ) حيث فقد (10.159) معلم ومعلمة وظائفهم سواء بالاستقالة أو إنهاء الخدمات ،مما اضطر الحكومة لفتح باب التعليم الإضافي المحدّد بفترة زمنيّة قد لا تغني ولا تشبع من جوع.
هذا الواقع انعكس على تحصيل الطلبة وأنتج ما أطلق عليه الفقر التعليمي وكان السبب الرئيس في ظهوره على الساحة التربويّة.
وتزيد معاناة المعلمين في المدراس الخاصة عما هو الحال في المدارس الحكومية، جرّاء الفصل التعسفي، وإنهاء عقود العمل كلّ نهاية فصل دراسي، والحرمان من الاجازات السنوية وفرض دوام يوم السبت، واشتراط عدم نية الانجاب للمعلمات، والقبول بالحد الأدنى للأجور، والقبول براتب (10) أشهر بدلا من (12) شهرًا ، وحرمانهم من الضمان الاجتماعي، وعدم الشعور بالأمان الوظيفي، وتكليفهم بمهام غير تعليمية…الخ
كل ذلك أدّى إلى ترك مهنة التعليم ، وأصبحت مهنة التدريس غير مجدية مهنيًا و اجتماعيًا وطاردة للكفاءات، مما دفع المعلًم للبحث عن مهنة أخرى خارج دوامه الرسمي، أومهنة دائمة تجعله مستقلًا ماديًا ،أو الاستقالة.
البحث عن الحلول : قد يكون البحث عن حلول للارتقاء بمهنة التعليم حاضرًا في ذهن كل واحدٍ منا، فليس من الإعجاز تحسين أوضاع المعلمين والبيئة التعليمية بشكل عام.
وإذا لم نهتدي لتلك الحلول في هذه المرحلة الحرجة ستبقى بوصلتنا منحرفة دون هدى.
وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)