الفاقد التعليمي في ظل انتشار جائحة كوفيد-19 وآثاره على الطلبة
بقلم
الدكتورة وفاء فياض الدجاني
دكتوراه مناهج وتدريس
مقدمة
خلال العام الماضي اضطر العديد من الطلاب إلى التعلُم عن بُعد من أمام الشاشات في المنزل فقد كان من أحد قيود التعلُم عن بُعد التي فرضتها حالة الطوارئ الناجمة عن انتشار فيروس كورونا المستجد، عدم وجود تفاعل شخصي بين المعلم والطلبة ذلك أن التباعد الإجتماعي كان استراتيجية ضرورية للحد من انتشار الفيروس للحفاظ على صحة الطلبة وحمايتهم.
ومع وجود 1.5 مليار طفل خارج المدرسة في 175 دولة حول العالم، برزت المزيد والمزيد من المخاوف بشأن الآثار طويلة المدى على العملية التعليمية، إذ أن حالة الطوارئ المستمرة ستؤدي إلى زيادة الضغط على المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في التعلُم، فالمعلمون والإدارات لم يكن لديهم الاستعداد الكافي لمثل هذا الانتقال واضطروا إلى بناء أنظمة التعلُم عن بعد على الفور لضمان استمرارية وديمومة العملية التعليمية.
وتشير الدلائل الناشئة من بعض البلدان ذات الدخل المرتفع إلى أن الوباء يؤدي إلى خسائر في التعلُم ويزيد من عدم المساواة بين الأطفال، فبالرغم من بذل قصارى الجهود لإعداد تجربة تعليمية عن بعد داعمة ظهرت أدلة ولسوء الحظ تثبت أن إغلاق المدارس أدى إلى خسائر تعلُم فعلية، فنتائج البحوث التي تم اجراؤها في العديد من البلدان الأوروبية على سبيل المثال، والتي شملت بلجيكا وهولندا وسويسرا والمملكة المتحدة، أشارت إلى وجود خسائر في التعلُم لدى الطلبة وزيادة في نسب عدم المساواة فيما بينهم.كما أشارت النتائج أن هذه الخسائر كانت أعلى بكثير بين الطلبة الذين يتمتع آباؤهم بتعليم أقل وأن الطلبة من العائلات المحظوظة اجتماعيًا واقتصاديًا قد تلقوا دعمًا أكبر من الوالدين في دراستهم خلال فترة إغلاق المدرسة.
مفهوم الفاقد التعليمـي
يمكن تعريف الفاقد التعليمـي بأبسط صوره بأنه الفجـوة بين واقـع مـا تعلمـه الطلبة وبيـن مـا يجـب أن يكـونوا قد تمكنوا منه وتعلموه فـي صفـوفهم الحالـية وينتج عن أسباب عديدة يُعتقـد أنهـا سـاهمت فـي زيـادة نسبته لـدى الطلبـة تتمثل في الانقطــاع المطــول عــن التعليــم نتيجة إغـلاق المؤسســات التعليميــة لفتــرات طويلــة، مـا ترتـب عليـه نسـيان مـا تـم تعلمـه، وفقـدان المهـارات وإعاقـة تحسـينها، وعـدم تعلـم المفاهيـم والمهـارات الجديـدة، وزيـادة نسـبة التفـاوت فـي التعلـم بيـن الطلبة، وانخفـاض مسـتويات التعلـم لديهم، كما أن الفجــوة الرقميــة بيــن الطلبــة تلعب دوراً هاماً خاصةً عنــد التوجــه نحــو التعليــم عــن بعــد، مــا يــؤدي إلــى حدوث مسـتويات تعلـم غيـر المتكافئـة وغيـر عادلـة.
ويمكن إرجاع أسباب الفاقد التعليمي الحالي إلى سـببين رئيـسين، أولهمـا انخفـاض عـدد سـاعات وأيـام التدريس الرسـمي وثانيهمـا مـا أشارت إليـه بعـض الدراسـات ونتائجها التي أظهرت أن جودة التعليم عن بُعد أقل من جودة التعليم الحـضوري للآن سواءً على المستوى النوعي أم علـى المـستوى الكمي.
وللفاقـد التعليمـي مـستويات، منها: ما يــسمى المعرفــة البسيطة والتي تتمثـل في إدراك المـصطلح أو الظــاهرة العلميـة، مع ما يخــالف التفــسير العلمــي، ومنهــا أيضاً المعرفة الساكنة فالطالـب يكتسب المفهـــوم العلمـــي بمـــا لا يتجـــاوز الحفـــظ المجـــرد ويستدعيه للإجابة المباشرة في الأسئلة الصريحة، أما المعرفـة المنهاجيـة فهي تفيـد في سـياقات المـواد الدراسـية لكن تقتصر على الحاجـة في المواقـــف التطبيقيــة غيــر التقليديـــة للمعرفـــة المكتسبة.
الشكل(1) مفهوم الفاقد التعليمي في ظل انتشار جائحة كوفيد-19
السيناريوهات محتملة الحدوث نتيجة لإغلاق المدارس في ظل انتشار جائحة كوفيد-19
يُعـد اسـتخدام الانحـراف المعيـاري(Standard Deviation) ومنحنى التوزيع الطبيعي القياسي (Standard Normal Distribution) الطريقة المباشرة التي يستخدمها البـاحثون للتعبيــر عــن مقــدار الــتعلُم الأكــاديمي المكتــسب أو المفقود، وفي مثل هذه الحالات يتم رسم منحنيات التعلُم من قبل صانعي التقييمات الوطنية، مثل: التقييم الوطني للتقدم التعليمي (NAEP) أو المنحنيات الدولية مثل: برنامج تقييم الطلاب الدوليين (PISA) أو الاتجاهات في دراسة الرياضيات والعلوم الدولية (TIMSS). وبالمجمل فإن هناك ثلاث سيناريوهات محتملة ومتوقعة لفقدان التعلُم ناتجة عن إغلاق المدارس في ظل انتشار جائحة كوفيد-19 لابد من أن نبحث فيها والتي قد تؤثر بشكل كبير على مستويات التعلُم في البلدان التي أغلقت المدارس فيها؛ بحيث أن كل سيناريو ناتج عن آلية مختلفة تؤثر على الطلبة في الوقت الحالي، كالآتي:
السيناريو الأول يتمثل في كيفية تسطح منحنى التوزيع الطبيعي أو انحرافه: هذا السيناريو يتقدم فيه الطلبة الموجودون في قمة المنحنى بينما يتخلف الطلبة الموجودون في أسفل المنحنى أكثر بسبب التأثيرات غير المتكافئة للأزمة، وبالطبع يلعب المستوى الإقتصادي للعائلات هنا دوراً بارزاً في هذا الأمر، إذ تعيش العائلات الأكثر ثراءً في منازل مريحة مع توفر اتصالات جيدة بالإنترنت كما ويمكنها استئجار معلم خاص للأبناء وقد تكون في وضع أفضل للتعليم في المنزل من قبل الآباء المتعلمين جيدًا وهو ما قد لا يتوفر لدى العائلات الفقيرة وخاصةً التي تعيش في فقر مدقع وفي منازل منخفضة المستوى؛ فبعض العائلات لا تمتلك حتى جهاز “راديو” ناهيك عن الاتصال بالإنترنت أو الأدوات الرقمية كماأن البعض منها لا تملك الموارد اللازمة لتوظيف معلم وبالتالي ستجد صعوبة في مواكبة واجبات أطفالها المنزلية.
السيناريو الثاني هو التحول الأكثر مباشرة:
والذي ينتج عن انخفاض متوسط مستويات التعلم عبر توزيع منحنى التوزيع الطبيعي، هذا سيناريو محتمل للغاية على الرغم من الجهود التي تبذلها أنظمة المدارس لتقديم التعلُم عن بعد فهو يربط التباين في وقت التدريس بفقدان التعلُم.
السيناريو الثالث يُلقي الضوء على تغير المنحنى بسبب التسرب من التعليم: فبسبب الظروف الإقتصادية الصعبة التي فرضتها انتشار جائحة كوفيد -19؛ العديد من العائلات ذات الدخل المنخفض ستضطر لمطالبة أطفالها بالعمل وعدم العودة إلى المدرسة أبدًا. وما يثير القلق في هذا المقام أيضاً وبشكل خاص “الفتيات” لأنهن وبالعادة أول من ينسحب من المدرسة؛ وبالتالي قد نشهد زيادة في عدد حالات التسرب من التعليم وانتشار لظاهرة عمالة الأطفال وبالتأكيد ستزيد حالات زواج القاصرات نتيجةً لذلك.
حلول مقترحة لاستدراك الفاقد التعليمـي
يُعـد تحديــد حجــم المـشكلة – الخطــوة الأولــى نحو تطــوير الحلول للحد من الآثار السلبية طويلة الأجل وعكس مسارها– إذ تحتاج الكثير من الدول والتي من المحتمل أن تكون أكثر تضرراً إلى تنفيذ برامج التعافي وحماية الميزانيات التعليمية والاستعداد للصدمات المستقبلية عن طريق التركيز على “إعادة البناء” وبشكل أفضل، فلابد من بناء نظام تعليمي أكثر مرونة يمكنه الصمود في وجه الأزمات المستقبلية؛ لذا نقدم مجموعة من الحلول الأساسية التي يمكن أن تساهم في تحقيق هذا الأمر من خلال الآتي:
أولاً العودة للتعليم الحضوري مرة أخرى وتفعيل التعليم المتمازج: فالتعليم عن بُعد لن يكون بأي حال من الأحوال بـديلاً أو مـساويًا لجـودة التعلـيم الحـضوري فهو يفتقد للعديد من العناصر أهمها التفاعل بين الطلبة والمعلمين، وهذا الأمر قــد يكــون مــن أهــم الــسياسات التعليميــة التــي تضغط نحوها الدول حول العالم لتحقيقها.
ثانياً تنفيذ برامج استعادة التعلُم: لابد من تفعيل عملية ضمان حصول الطلبة الذين تخلفوا عن الركب على الدعم الذي يحتاجون إليه لتحقيق أهداف التعلم المتوقعة. يجب أن تكون الخطوة الأولى هي إجراء عملية التقييم في الوقت المناسب لتحديد هؤلاء الطلبة واحتياجات دعمهم.
ثالثاً التخفيــف مــن المناهــج الدراســية: وذلــك لكــي يتمكــن الطلبــة مــن التركيــز علــى بعــض الموضوعــات وتعلمهــا جيــداً. هذا النظام قامت بتفعيله العديد من الدول منها: أونتاريـو فـي كنـدا، وكذلك الهند، فبرنامجهـا للتعافـي يتضمـن منهجاً موجـزًا للعاميـن المقبليــن مــع التركيــز علــى الموضوعــات الرئيســية مثــل الرياضيــات والعلــوم واللغات فــي المــدارس الثانويــة.
رابعاً إتاحـة المزيـد مـن الوقـت للتعلُـم: يمكـن أن يتـم ذلـك مـن خـلال الفصـول الصيفيـة أو عطلـة نهايـة الأسـبوع أو إضافـة وقـت إضافـي فـي نهايـة اليـوم الدراسي، فمثـلاً نظمـت المـدارس فـي الفلبيـن فصولاً صيفيـة فـي عـام 2020 لاسـتعادة الوقـت الضائـع وتدارك فاقد التعلم، كما وأقرت ولاية تينسي في الولايات المتحدة الأمريكية قانون أطلق عليه “قـانون ولايـة تينيـسي لاســتدراك الفاقــد التعليمــي وتــسريع تعلــم الطلبــة” تضمن برامج لدعم تعلم اللغة، ودعـم التـدريس المـساند والتعليم الصيفي وبــرامج تنفذ بعــد دوام المدرســة الرسمي.
خامساً الإهتمام وبشكل جيد بالمراحــل الأساســية الدنيــا والتوجيهــي: وذلــك لأهميــة هــذه المراحــل – أي الصفوف الأول والثانــي والثالــث– إذ لابد من التركيز على تعلُم الطلبة للمفاهيم والمهارات الأساسية في المواد التعليمية خاصةً العلوم والرياضيات واللغتين العربية والإنجليزية، وتجنــب الجمــع بيــن الفاقــد التعلمــي القديــم نتيجــة انقطــاع الطلبــة عــن المدرســة والتعلــُم الجديــد، لأن هــذا الجمــع يمكــن أن يربــك الطلبــة والمعلمــون،كما يجب الأخذ بعين الاعتبار بأن الفاقــد التعلمــي يمكــن أن يكــون مختلفــاً مــن طالــب لآخر.
سادساً الاستعداد من خلال إعادة البناء بشكل أفضل: من الضروري ألا نتعافى من الوباء فحسب بل أن نستخدم هذه التجربة لنصبح أكثر استعدادًا للأزمات المستقبلية وذلك من خلال بناء قدرة الدول على توفير نماذج مختلطة من التعليم فالمدارس يجب أن تكون أكثر استعدادًا للتبديل بسهولة بين التعليم وجهًا لوجه والتعليم عن بُعد حسب ما تقتضيه الحاجة.
سابعاً دعم المعلمين لتطوير مهاراتهم: من خلال تدريبهم وتعزيز قدرتهم على التفاعل عبر التقنية وتطوير قدراتهم في استثمار الوقت في التدريس الفعلي أكثر من الانشغال بالتقنية ذاتهـا، وتوفير محتوى جاهز يُستخدم في التدريس مع التأكيد على وجود تدريب ممنهج ومنـتظم لمهـارات التـدريس عـبر الإنترنت.