الذكاء الفاعل
Active intelligence
بقلم: د. يحيى أحمد القبالي
الذكاء(Intelligence) ذلك المفهوم الذي أحتل مساحة كبيرة من دراسات المختصين ودار حوله الجدل وما زال، وتعدّدت أنواعه وأشكاله حتى ضاقت به صفحات الكتب، فهناك عشرات النظريات التي تتعلّق بالقدرات التي يتكوّن منها الذكاء، وما يزيد عن مئة تعريف، وكلّ تعريف له علاقة بالخلفية العلمية لمن طرحه، وقد يجد الدارس صعوبة بالوقوف عند تعريف بعينه، وأصبحت مقاييس الذكاء غير قادرة بالوفاء بالهدف الذي وضعت من أجله وهو قياس نسبة الذكاء عند الأفراد، بالرغم من تحديد ذلك الهدف ووضوحه، وهو التسكين أو ما يُطلق عليه الإحلال وهو الغاية من تطبيق تلك المقاييس، فعلى ضوء درجة الذكاء يتمّ تصنيف الأفراد ومن ثمّ توجيههم إلى البرامج التي تناسب قدراتهم. فالذكاء من وجهة نظر المختصين يتكوّن من : القدرة على التحليل، والتخطيط، وحلّ المشكلات، وبناء الاستنتاجات، وسرعة التصرّف، والقدرة على التفكير المجرّد ، وجمع وتنسيق الأفكار، والتقاط اللغات، وسرعة التعلّم، والقدرة على الإحساس وإبداء المشاعر، وفهم مشاعر الآخرين، وارتبط الذكاء أيضًا بقوّة الذاكرة، يمكن أن يكون لنتيجة مقاييس الذكاء المتعارف عليها باختصار( (IQ test تأثير على مجالات مختلفة من حياة الفرد بما في ذلك المدرسة والعمل، وغالبًا ما ترتبط الدرجات العالية بأداء أفضل في المدرسة والعمل، بينما قد ترتبط الدرجات المنخفضة جدًا ببعض أشكال الإعاقة العقلية، لقد تمّ تصميم مقاييس الذكاء لقياس القدرات التي يتكوّن منها الذكاء وتم تقنينها على شريحة واسعة من الأفراد والتأكّد من صدقها وثباتها، وتقيس أشهر المقاييس مثل مقياس ستانفورد–بينيه خمسة مجالات :(الاستدلال السائل، المعرفة، الاستدلال الکمي ، العمليات البصرية / المكانية، الذاكرة العاملة) وهذه القدرات تكشف : حالات مختلفة من التأخّر المعرفي عند الأطفال الصغار، والتخلّف العقلي، وصعوبات التعلّم، والتفوّق العقلي، بالإضافة إلى أنّه تمّ استخدام الإصدارات السابقة في التقييم الإكلينيكي وفي أبحاث القدرات المعرفية والتربوية والطفولة المبکّرة .(Bower, A, 1995)
هل مقاييس الذكاء صالحة لكلّ زمانٍ و مكانٍ؟
تأثير فلين Flynn effect
اكتشف العالم النفسي والفيلسوف جيمس فلين(James Flynn) أثناء عمله في جامعة (اوتوجو) بنيوزلندا ، أنّ هناك شيئًا غريبًا يحدث ذا علاقة بمقاييس الذكاء على مدى السنوات المتتالية، حيث كانت الجهات التي تنتج تلك المقاييس تعيد بشكل منتظم كلّ عدّة سنوات معايرة (Standardization) نتائج مقاييس الذكاء (IQ- test) بحيث يصبح المتوسط (100) على المنحنى الطبيعي لتوزيع الذكاء بانحراف معياري يساوي (15) درجة، واكتشف أنّ البشرية أصبحت أكثر ذكاءً على مدى (46) عامًا في عدّة دول وفي كلّ جيل يزيد معدّل الذكاء (3) درجات، فعزى الأسباب إلى :
1- التعليم وتطوير الطريقة التعليمية والمناهج.
2-البيئة المحفّزة وسهولة الوصول إلى المعلومات .
3-الصحة والتغذية الجيدة وزيادة الوعي بأهميتها.
4-ظهور المهام المتعدّدة والمعقدة.
5-مقاومة الأمراض وظهور اللقاحات .
وتعقيبًا على تأثير فلين : بقي توزيع الأفراد على المنحنى الطبيعي لتوزيع الذكاء ثابتًا ولم يتغير يغض النظر عن نسبة ارتفاع معدّل الذكاء أو انخفاضها ، أي أنّ العلاقة بين تأثير( فلين) وتوزيع مستوى الذكاء على المنحنى الطبيعي علاقة طرديّة، هذا من ناحية ، أمّا ناحية أخرى فنعتقد بأنّ للمناهج المدرسيّة الدور الأكبر في زيادة هذه النسبة حيث أنّ المناهج أصبحت تتضمن مهارات تفكير عليا مشابهة لما تتضمنه مقاييس الذكاء ، أي بمعنى أن هذه المهارات كانت مقنّنة وتنحصر في مقاييس الذكاء فقط ولكن لتداولها ومحاكاتها في المناهج أصبحت مألوفة لدى الأفراد.
وعودة على بدء مهما كان تعريف الذكاء متحيّزًا إلى من طرحه فلابدّ من احترام وجهة نظره وتقديرها ؛ لأنّ وجهة نظره لم تأت من فراغ، سواء كان التعريف حسب تكوين الدماغ وبنيته أو حسب وظيفته ومهامه، وإذا نظرنا إلى تلك التعريفات مجتمعة بموضوعية تامّة نجد أنّها متكاملة ويشد بعضها عضد بعض، وبالرغم من التصنيفات المتعدّدة للذكاء فمنهم من يعتبر الذكاء فطريًا، ومنهم يعتبره وراثيًا، ومنهم يعتبره مكتسبًا ويمكن تعلّمه، ومنهم من قام بتقسيمه إلى نوعين، ومنهم من قسّم الذكاء إلى ثمانية أقسام ..الخ حتى أصبحنا نستمع إلى مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) Artificial intelligent ، ومهما تعدّدت تعريفات الذكاء وتنوّعت، ومهما بلغت نسبة ذكاء الفرد فانّ حجر الزاوية في ذلك كلّه هو كيف نستغل تلك النسبة استغلالًا يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع، وهذا ما نقصده بالذكاء الفاعل، ومرجع ذلك كلّه إلى التفكير وطريقة تفكير الفرد في المواقف المختلفة، فالتفكير هو مادة الذكاء، وقدرة الإنسان على التفكير قدرة فطريّة ويمكن تنميتها وتهذيبها كأي قدرة فطرية أخرى كالنوم، والأكل، والتكلم، والمشي..الخ ومن خلال تنميّة مهارات التفكير يتسع مجال الذكاء وتزداد خبرة الفرد وتتحسّن نواتج تعامله مع المواقف المختلفة، فالخبرة تزداد بالممارسة ومدى الاستفادة من خبرات الآخرين ومحاكاتها، ولا تدخل الخبرة في مكونات مقاييس الذكاء، فلا يجوز قياس ذكاء عامل النجارة مثلًا بخبرته واتقانه للمهنة ونسقط نتيجة المقياس على المنحنى الطبيعي لتوزيع الذكاء، وهذا القول ينطبق على كافة مجالات المهن والمهارات التي يتقنها الأفراد، لذلك فإنّ مقاييس الذكاء تركّز على مواقف جديدة لم يتعرّض لها الفرد سابقًا تناسب عمره الزمني، ويتمّ تطوير تلك المكونات في فترات زمنيًة لأسباب متعدّدة من ضمنها: تسرّب بعض مكونات المقياس والتدريب عليها مما يفقدها الهدف الذي وضعت من أجله وتظهر لدينا نسب ذكاء غير حقيقية.
يبقى أن ندرك بأنّ الإنسان مهما بلغت نسبة انخفاض ذكائه فإنّه يبقى أذكى من أذكى حيوان، ويمكننا الاستدلال على ذلك بقصة (حي بن يقظان) لابن طفيل ، وملخّص القصة تروي قصة طفل رضيع ربّته الغزلان في الغابة ونشأ في جزيرة مهجورة دون أي تفاعل بشري، وتعلّم من خلال الملاحظة ومراقبة البيئة والطبيعية من حوله، وكيف تحافظ الحيوانات على حياتها.. وكيف استطاع المحافظة على نفسه في غابة يسودها القوي على الضعيف.
وتحاكي قصة (ماوكلي فتى الأدغال ) قصة حي بن يقظان، حتى جاءت القصة الحقيقية للطفل الفرنسي أفيرون الوحشي (فيكتور الافيروني) والذي وجد في غابة وعمر (12) عامًا وقام العالم الفرنسي (ايتارد) بالعمل معه مدة (5) سنوات وأطلق عليه ( فيكتور)، هرب خلالها هذا الطفل (8) مرّات من الحضارة إلى الغابة، وثبت بالدليل القاطع بأنّ هذا الطفل متخلّف عقليًا، ولكنه استطاع بذكائه المنخفض المحافظة على نفسه سنوات طويلة بين حيوانات الغابة ومنها المفترس.
من هنا فإنّ نسبة ذكاء الأفراد مهما كانت مرتفعة أو منخفضة لا يمكن التعويل عليها إلًا إذا استغل الفرد ذكاءه ووظفّه فيما يعود بالنفع عليه وعلى مجتمعه، وهذا هو الذكاء الذي نسعى إليه وإلى تطويره وإحلال (تسكين) صاحبه في المكان الذي يناسب قدراته وحينئذ نطلق عليه ( الذكاء الفاعل) وهو الغاية القصوى من إيجاد مقاييس الذكاء.
وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)