الدكتور ذوقان عبيدات يكتب التعليم والمستقبل
قرأت مقالة الأستاذ جمال الطاهات في موقع التربوين العرب في الولايات المتحدة، وأعترف أنها مقالة مختلفة حداثية، غير تقليدية، فيها فكر باحث. وهذا ما حفزني أن أكتب – ليس رداً عليها– بل بحث فيها أو حولها أو من أجلها. فالمقالات المتميزة تلهم، وهذا ما يميز الكتابة العميقة عن كتابة عابري السبيل
والكتابة عن المستقبل، وعن التعليم في المستقبل عادةً ما تواجه عدداً من القضايا
المستقبل غامض بل مجهول أو ظلام
التعليم يعكس الواقع والطموح، وكلاهما غير معروف
العلاقات المستقبلية غير واضحة
وهذه القضايا كلها تنبع من مصدر واحد هو الجهل بمستقبل غير معروف مما يترتب عليه عشرات القضايا في نوع المناهج وشكل المدرسة وأدوار المعلمين أو مهامهم، وأهمية الدراسة، ونمط التعليم وغيرها
إذن كيف نكتب عن المستقبل غير المعروف وعن التعليم في المستقبل وليس لدينا أي تجارب ناجحة للتعليم في الماضي أو الحاضر. فالتعليم منذ نشأته النظامية كان قاصراً عن الوفاء بمتطلبات التعلم. وكانت المدرسة بتعليمها ومناهجها ومعلميها غير قادرة على كسب ودّ طفلٍ واحد
أي تعليم ؟ وأي مستقبل؟
هل نتحدث عن التعليم والمستقبل؟ أم عن التعليم في المستقبل؟ أم التعليم من أجل المستقبل؟
فالتعليم والمستقبل أمران متناقضان. فالتعليم ينتسب إلى الماضي. وليس في المناهج أي نظام تعليمي سوى الحقائق التي تم اكتشافها في الماضي ! فالمناهج ثقافة العادات والقيم والتقاليد! والمناهج هي إتقان مهارات الأجداد. وبحدود علمي، هذا شائع في كل أنظمة التعليم في العالم. فالمواد الدراسية التي شاعت في العهد الزراعي انتقلت في معظمها إلى العصرالصناعي
والمواد الدراسية في بريطانيا في القرن التاسع عشر هي نفسها في القرن الحادي والعشرين: لغة الأم، تاريخ الوطن، الرياضيات والعلوم المعروفة والفن والتربية الرياضية. طبعاً هذا هو منهاج كل دول العالم، والاستثناء الوحيد هو الحديث عن الحاسوب والذكاء الصناعي، وهي أدوات جديدة!! وليست مفاهيم جديدة
التعليم ينتسب إلى الماضي لا إلى الحاضر ولا إلى المستقبل! فكيف نوفق بينهما؟
أعجبتني مقاربة الزميل الطاهات حين قال: السيارة سيارة، وإذا تمكنا من جعلها تطير فهذا ليس اختراقاً مهماً
ولذلك حين نفكر في المستقبل – و أنا أفضل أن نفكر في تطوير التعلم أو نسف جميع أسسه– فلا نريد سيارة تطير، بل شوارع ليست كالشوارع وسيارات ليست كالسيارات، ومدارس ليست كالمدارس وتعليماً ليس كالتعليم!! هرب الطاهات من هذه التناقضات حين وضع معادلة سحرية هي الانتقال من التعليم إلى التعلم، ناسياً أنها من معادلات الماضي، أو من السيارات التي تطير
متغيرات أساسية
نشهد منذ نهاية القرن الماضي تغييرات ومتغيرات أساسية وحاسمة ستؤثر على التعليم أو التعلم أو كلاهما
اولا– تغيرت قيمة المكان. ولم يعد مستقراً أو ثابتاً، لذلك لماذا نتحدث عن مدرسة ومبانٍ ومختبرات وساحات؟ّ؟
ثانيا – تغير مفهوم السيادة ولم يعد لأحد سيادة حتى على منزله. ولم تعد لدولة سيادة حتى داخل عاصمتها
ولم يعد مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين ذوي السيادة أمراً معترفاً به!! فالكل يتدخل في شؤون الكل. ويكفي أن نعرف أن إطلاق سراح لجين الهذلول ليس قراراً سعودياً. وأن ارتدادات مقتل الخاشقجي أثر على موقف كل دولة وكل فرد على السعودية – طبعاً ما عدا ترامب
ثالثا – تغير مفهوم السلطة وتغير حجمها وحدودها وتأثيرها. فلم يعد لصاحب أي سلطة رئيسا، وزيرا، معلما، أبا، أما، شرطيا أي تأثير حاسم على تابعيه!! فالرؤساء يحاكمون، والمعلمون يضربون، والأهالي يشتكى عليهم …… الخ
هذه المتغيرات الثلاث لها انعكاساتها على التعليم حاضرا ومستقبلا وأسجل منها ما يأتي
المدرسة ليست المكان المناسب للتعليم ، فحيز التعليم قد يتم خارجها، أو لم يقل رومو” إن الطبيعة هي المعلم” وإذا أردنا إصلاح المدرسة لتكون سيارة المستقبل على رأي الطاهات فلن نجد بها سوى تحسين لواقع فاشل
وبالنسبة للسيادة، لم تعد للمدرسة سيادة حصرية، فما نقدمه على مدى سنوات لا يعادل 5% مما يكتسبه المعلم من خارجها، ولم تستطع المدرسة أن تحمي طلابها من التأثيرات الخارجية: الإعلام، الدعارة، التواصل الاجتماعي. إذن فسيادة المدارس كسيادة الدول مخترقة
أما السلطة فمن الطبيعي أن تكون قد تضاءلت أو اختفت. لذلك كما يقال” ارحموا عزيز قوم ذل” فإن المدرسة ومعلميها ومن خلفها المجتمع ليست قادرة على فرض أي نوع من المعارف والمهارات أو المواد الدراسية أو القيم على طلابها
اعتادت المدرسة بحكم تمثيلها للمجتمع وسلطة الدولة أن تقرر ماذا يدرس المتعلم؟ وكيف يدرس؟ ومتى يدرس؟ وأين يدرس؟ . بانتهاء السلطة سقطت كل مسلماتها!! إذن لن يكون الحل تحويل السيارة إلى طائرة
فالمدرسة المكان، والسلطة، والسيادة انتهت أو في طريقها إلى نهاية حزينة! وبالمناسبة لم تنجح المدرسة يوما في حل مشكلاتها الأساسية إلا باستخدام السلطة والقوة الشرعية
التعليم والمستقبل مرة أخرى
إذا كان المستقبل غامضا، فعن أي تعليم نتحدث؟
كما قلت: التعليم في المستقبل أم التعليم من أجل المستقبل؟
التعليم في المستقبل تناقض، لأن المستقبل غير واضح. ولذلك كل ما يمكن قوله هو أن ننفي عنه ما يأتي
ليس له مكان
ليس له مناهج تقليدية
ليس له محتوى
معلموه ليسو المعلمين الحاليين
ومن الصعب أن نخطط لمستقبل غير معروف
والتعليم من أجل المستقبل فكرة خيالية أيضا ، لأننا إذا قلنا التعليم هو الحياة، فإن التعليم يجب أن يهتم بالحاضر والحاضر فقط. ولا يحق له أن يهتم لمستقبل قد لا يأتي، ويهمل حاضرا مؤكدا ومعروفا!
والتعليم في المستقبل فكرة أكثر قبولا، لأننا هنا نتخيل ونتوقع وندعو، بل ونرسم صورة فيها
إنه تعليم حرّ، مرن، ليس خاضعا لسلطة وليس مفروضا من أحد. وهذا ما أتحدث عنه الآن
كيف نعد لمستقبل غير معروف
المناهج ليست محتوى معرفي، بل مهارات حياة، ولذلك فإن جهودنا لمستقبل ليست في البحث عن شكله ومتطلباته ومحتوياته ومهمته ومعارفه، المستقبل لا شكل ولا لون له إلا ما تخطه أحلامنا وتوقعاتنا ، ولذلك فإن استعدادنا سيكون
في عدم إهمال مهارات الحاضر
في عدم الاجتهاد للإعداد لمهن
فالمطلوب إعداد المتعلمين للعيش في عالم غير معروف! وهذا العالم يتطلب مهارات: المرونة وعدم الثبات، وعدم اليقين، والبحث والتجريب، والمبادرة وعدم الخوف، وعبء حمل أعباء الحاضر والماضي
مهارات التأمل وقيم إدارة الذات وقيم قبول الجديد وقيم تغيير المواقف، والتصرف السريع
والأهم من ذلك أن لا نذهب إلى المستقبل بنفس أدواتنا ومدارسنا ومعلمينا وكتبنا. إن سيارتنا الحالية لن تحمل أعباءنا ولن نأخذها إلى المستقبل
سيارة المستقبل لا نعرف عنها إلا أنها لن تأخذنا إلى المستقبل، ولن نأخذها معنا هناك
كل ما نعرفه عن مناهج المستقبل أنها ليست منهاج الحاضر، لأن مناهج الحاضر كانت دائما مناهج الماضي
ولم تحل لنا لا مشكلات الحاضر ولا الماضي
مناهج المستقبل هي مناهج مهارات وليس مناهج معلومات