التّعليم أفضل استثمار
بقلم الدكتور يحيى القبالي
لقد رفعت الجهات الحكوميّة والأهليّة هذا الشّعار في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في ظل ظهور نظرية رأس المال البشري Human Capital Theory حيث أظهرت هذه النظريّة أهميّة الاستثمار في رأس المال البشري والانتباه للدور الرئيسي للتّعليم، واستبعدت الاقتصاد التقليدي القائم على رأس المال والأرض، وساندت نشر ثقافة الاستفادة من الموارد البشرية، ولقد احتلت هذه النظرية مساحةً واسعةً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي ، ولكن تباينت الرؤية بين النظرة الحكوميّة والنظرة الأهليّة حسب الأهداف كل منهما المتوقعة من شعار التّعليم أفضل استثمار، فكانت نظرة الجهات الأهليّة نظرة ماديّة صرفة من منطلق المردود المادي الوفير مقابل التكلفة المتواضعة فكانت المخرجات لا ترتقي إلى مستوى الطموح.
في حين تنبّهت الجهات الحكوميّة إلى أنّه من الخطأ الفادح اعتبار التّعليم خدمة من الخدمات الاجتماعية أو الفرديّة ، بل يجب أن يُنظر إليها أنّها استثمار حقيقي، وأنّ للتربية وظيفتان أساسيتان
وظيفة اجتماعية: تسعى من خلالها التربية إلى إعداد وتربية النشء ثقافيًا واجتماعيًا مع البيئة التي سيحل فيها
وظيفة اقتصادية: تتمثل في تدريب الأيدي العاملة حسب احتياجات المجتمع واحتياجات المجتمعات المحيطة، حيث أصبحت الحكومات حريصة كلّ الحرص للإنفاق على التّعليم كأحد الاستثمارات في تنميّة الإنسان الذي من خلاله تتحقق التنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وأنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع يمكنه أن يتمتع بعائد مضاعف لما تم استثماره في تعليمه، وأكدت تقارير اليونسكو أنّ هناك علاقة هامّة إيجابية بين الاستثمار في التّعليم والنمو الاقتصادي في جميع دول العالم، ووفقا لتقرير البنك الدولي فإنّ التّعليم يحقق عائدات أكثر أهمية للمجتمعات الإنسانيّة، كما يؤكد البنك الدّولي أنّ التّعليم أحد العوامل الرئيسية لتحقيق النمو المستدام، و تشير الدراسات الحديثة إلى أنّ سنة إضافية واحدة في التّعليم تحقّق نموًا في الناتج المحلي بنسبة 7 %، وهذا يوضح أهمية الاستثمار في التّعليم بصفة عامة والتّعليم العالي بصفة خاصّة.
ويطلق على هذا الفرع “اقتصاديات التعليم” وتُعدّ اقتصاديات التعليم أو اقتصاد التربية أو اقتصاد التّعليم فرعًا من فروع الاقتصاد، وهو يبحث في جوانب العملية التربويّة التي تتعلق بالاقتصاد، منها:
1- التّدريب والتّعليم في جميع المراحل التعليميّة🙁مدارس وجامعات).
2- تدريب القوى البشرية التي تبحث عن عمل ( دورات تدريبية قصيرة وطويلة الأمد).
ولقد أكّدت كثير من الدّراسات على أرض الواقع أنّ مردود التّعليم أكبر من تكلفته والعلاقة بين الاقتصاد التّعليمي وبين تقدّم الدّول يتحدد بمستوى الإنفاق على التّعليم ومستوى التّعليم وجودته بمستوى التّطور الاقتصادي للدّول، ويتم الاستدلال على عائدات الاستثمار في التّعليم من خلال الفارق بين الأجور بين الأشخاص المتعلمين والأشخاص غير المتعلمين، ومن يحملون شهادة دراسات عليا عن الذين يحملون شهادة جامعية دنيا( بكالوريوس).
لم يعد يُنظر إلى العمليّة التعليميّة على أنّها مجرّد خدمة مجانيّة، بل أصبحت استثمارًا يهدف إلى تحسين مستوى الحياة للأفراد وتحقيق التنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمجتمع، ولا يختلف اثنان على أنّ الاقتصاد هو القلب النابض للمجتمعات الإنسانيّة وفي الوقت نفسه فالتّعليم هو الأوردة والشرايين التي تضمن عمل القلب واستمرارية نبضه.
لقد أصبح التّعليم العالي أحد حقوق الإنسان الأساسية؛ لأنّه ضرورة لتنمية الشخصيّة الإنسانيّة، وهو أمر لابدّ منه لممارسة حقوق الإنسان الأخرى، فالسنوات الجامعية الأولى من حياة الفرد ( البكالوريوس) كان من الممكن اختصارها لسنتين أو أقل، ولكن هذا الزمن الوجيز لا يمكنه صقل شخصيّة الفرد اجتماعيًا وتهيئته لسوق العمل اقتصاديًا، من هنا فإنّه كلما كان التّعليم العالي استثمارًا ذا عوائد ومكاسب مستقبلية فإنهّ من الخطأ الجسيم أن نعتبر نفقات التعليم استهلاكًا فوريًا؛ لذا تُعتبر مؤسسات التعليم العالي قيمة حضارية لا غنى لأي مجتمع عنها.
لقد أكد أكثر المهتمين في المجال التعليمي على القيمة الاقتصادية للتّعليم، حيث يرون أن الأفراد المتعلمين هم الأكثر انتاجية ، فكلما زاد استثمار الدّولة في التّعليم كانت أقرب إلى تحقيق التنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بيسر وسهولة.
التجربة الأردنية في رفع راية التعليم أفضل استثمار.
لقد كان الأردن من الدّول السّباقة في مجال اقتصاد التّعليم والاهتمام برأس المال البشري المتمثل في تخريج أعداد كبيرة من الطّلبة الجامعيين ، وبغض النظر عن الأسباب التي دفعته إلى ذلك والمتمثلة في قلة الموارد أسوة بالدول المحيطة به، بالإضافة إلى الوفرة المالية في دول الحليج وقلة الخريجين في هذه الدّول وحاجتها إلى تلك الكفاءات رخيصة التكلفة، والقريبة من مجتمعها ثقافة ودينًا ولغة، إلاّ أنّ الحكومة الأردنية تنبّهت مبكرًا إلى توجيه رأس المال الفكري توجيهًا سليمًا بخطط استراتيجية مدروسة ،حيث أصبحت عبارة الرّاحل الكبير الملك حسين بن طلال( رحمه الله) : “الإنسان أغلى ما نملك” شعارا يردده الكبير والصغير ويعي معناه حقيقة، وأصبح وما زال استغلال رأس المال الفكري العائد المالي للأردن وعماد الاقتصاد وضمانته المستقبلية. وكمؤشر واقعي على هذا القول فقد دعمت التحويلات المادية للخريجين الخزينة الأردنية بمئات المليارات من الدولارات على مدار سنوات حيث بلغت التحويلات المادية للمغتربين للعملة الصعبة في عام ( 2019م) قبل جائحة كورونا العالمية( 3.7 ) مليار دولار بما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتفيد الدراسات العالمية أنّ العائد المالي للتّعليم يقدّر بثلاثة أمثال العائد من الاستثمارات المالية في المجالات الأخرى ، وهذه الدراسات أكدت أن الإنسان رأس مال مهم وعاملاً مؤثرًا في التنمية.