العلاقات الارتباطية بين التعليم والدولة المدنية بقلم الدكتور محمود المسّاد

العلاقات الارتباطية بين التعليم والدولة المدنية بقلم الدكتور محمود المسّاد

العلاقات الارتباطية بين التعليم والدولة المدنية

بقلم الدكتور محمود المسّاد

سفير الأمم المتحدة للسلام وحقوق الإنسان

مدير المركز الوطني لتطوير المناهج في الأردن

من المعروف أن العلاقة بين التعليم والدولة المدنية علاقة تبادلية قائمة على التأثر والتأثير، وهذا بدوره لا يؤيد أن التعليم يقود بالضرورة إلى بناء الدولة المدنية، كما لا ينفي أن التعليم هو الأساس لقيام الدولة المدنية واستمرارها. وهذا ليس لغزاً بل هناك فرق شاسع بين تعليم موجه لإعداد متعلمين متشربين لأيدلوجيا معينة ومسيسين يحملون أجندات خفية أو متزمتين لهويات فرعيةوغير ذلك بما لا يبني دولة مدنية، لا بل يحمل بين طياته ما يفتك بها ويقوض أركانها، وبين تعليم نوعي معرفي نهضوي يحتشد بالقيم الإيجابية التي تشكل القاعدة الرئيسة الصلبة لبناء الدولة المدنية.

وبالعودة إلى مفهوم الدولة المدنية نجده بالشكل المبسّط يشير بوضوح إلى دولة المؤسسات وسيادة القانون على الجميع دون استثناءوالاحتكام فقط للدستور وما ينبثق عنه ويتناغم معه من قوانين وأنظمة وتعليمات وإجراءات، بطرائق عادلة وشفافة. وبنظرة متفحصة عميقة نجد أن مفهوم الدولة المدنية يقوم على أركان خمسة هي: –

المحافظة على جميع المواطنين وحمايتهم بغض النظر عن تنوعهم الديني والقومي والفكري إلخ.

المواطنة والوطنية للجميع أساس لا يقبل القسمة قائم على الحقوق الكاملة والواجبات الكاملة. فلا يعرف أي من الأفراد بمهنته أو مدينته أو إقليمه وبماله أو بسلطته.

بناء الدولة المدنية لا بد وأن يقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة (في الحقوق والواجبات).

ألا تتأسس الدولة المدنية على الخلط بين الدين والسياسة، ولا تعادي الدين أو ترفضه.

الديمقراطية في هذه الدولة تحول دون اغتصابها من قبل أفراد أو نخبة أو عائلة أو نزعة أيدلوجية.

وضماناً لسلامة التفسير فما أراه أن هذه الدولة أي المدنية وفق ما قدّمت ترتكز على قيم عظيمة سامية من مثل: قيم السلام والتسامح والعيش المشترك واحترام التعددية قولاً وفعلاَ، إضافة إلى حمايتها للحقوق وضمان الحريات وانصاف جميع المواطنين في حال انتهاك حقوق أياً منهم أفراداً وجماعات، فضلا عن ترسيخ الوطنية وحب التضحية وفعل التطوع والنزعة الواضحة للدفاع بل وحماية المال والممتلكات العامة. وهنا يظهر بجلاء أن الدين هو الأساس في بناء المنظومة الأخلاقية والقيمية باعتباره جزء رئيس من الدستور

ومن باب الحوار الذي يقود للوقوف على التبادلية في التأثير والتأثر السليمين بين التعليم والدولة المدنية، فأنني أعرض لفكره الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون متسائلأ من الذي يضمن هذه السيادة؟ هل هي السلطة والقوة ومنطق الخوف؟ أم هي الثقافة والأطر الفكرية ذات البنائية التراكمية منذ الصغر ومنظومة القيم والتنشئة الإيجابية عليها؟ وبتمعننا الحصيف نستنتج أن في:

الأولى: توجيه من الأعلى قائم على تشريعات وعقوبات تختلط بنماذج تُمايز بين من هم في السلطة ومن هم فيصفوف الشعب، بين من هم فوق القانون ومن يطبق عليهم القانون.

وفي الثانية: نجد أن في التنشئة وتراكم الخبرة منذ الصغر من مدخل التعليم النوعي المنضبط تشكيل وبناء للأطر الفكرية التي توجه السلوك نحو الإيجابية، والامتثال لسيادة القانون دونما حاجه للتلويح بالعقوبات أو ممارستها.

وتجدر الإشارة إلى التخصيص هنا أن ترافق ذلك من قبل السلطة بتطبيق عادل وقدوات حسنة لسيادة القانون وأركان الدولة المدنية المختلفة. وهذا يعني أن التعليم القائم على ترسيخ منظومات قيمية إيجابية إلى جانب البناء الشخصي المتكامل للمتعلم المدعوم من نماذج وقدوات حياتية لهذه القيم السامية التي تزخر بها وتقوم عليها الدولة المدنية بغض النظر هل هم من طبقة السلطة أو من طبقات الشعب، فإنها تفضي بالضرورة إلى نجاح في تجربة الدولة المدنية التي تترسخ أيضا مع الأيام وتراكم الخبرة والتجربة.

إن الدولة المدنية بحقيقتها حلوة وجميلة، نحلم ونحن بحالة صحو وفي وضح النهار أن نعيشها، لكننا لا نرغب لهذا الحلم أن يتحقق، نتمنى ونجتهد أن نعيش هذا الكيان ولكننا نعرف ومتأكدين من أننا كسلطة لا نتحمله ولا نستطيع تنفيذه. وهنا لا أتحدث عن حالة صراع مركب بين أحلام السلطة في دولة مدنية نتحدث عنها للإعلام مع الرغبة الحقيقية في أن لا تكون، وبين أحلام الشعب وسعيه لأن يعيش عدالة الدولة المدنية وشفافيتها وسيادة القانون على الجميع بنفس الوقت الذي يتأكد من أن هذا مجرد حلم لن يتحقق، لأنه في الحقيقة وراء الحالتين عصبة منتفعة من هذه الفوضى تعمل ليل نهار لتبديد هذه الاحلام مع سماحها فقط للغو فيهما. وهنا وهذا ما يهمنا يبقى التعليم في حالته الراهنة مجرد كلام نحفظه ونجترَه في الامتحانات لا معنى له إن بقي دونما تطبيق عملي يعكس تطبيقات الدولة المدنية في الحياة، وبالذات للقيم باعتبار أن تعلمها فقط من خلال التجربة والاقتداء بالنماذج الحية التي نراها ……. فنصدق.

ولمزيد من التوضيح نُسلّط الضوء على الصور التي تشرح ديمقراطية التعليم باعتبارها الخبرة التجريبية القابلة للتطبيق في الحياة.

مُقدمة:

يُنظر إلى عملية التفاعل الصّفي كعملية نشطة يحركها كل من المعلم/المعلمة والطالب/الطالبة في جو يسوده الدفء والتحرر والاندفاع والتقبل والبناء. عبر وسائط متعددة منها محتوى الكتاب المدرسي، وأوراق العمل المرجعية، وأراء الخبراء وذوي الاختصاص. بهدف الوصول إلى تحقيق الهدف الرئيس من هذه العملية. وعملياً يعتبر الهدف العميق والرئيس من التفاعل الصّفي هو؛ تنشيط التفكير كعملية، واكتساب مهاراتها، وتنمية الاتجاه الإيجابي نحوها، وفهم المعلومات واستخلاص المعرفة باعتبارها المحتوى والمضمون لها، والعمل على توظيفها في مواقف جديدة تختبر وتقيم من خلالها. وأمام هذه النظرة اللازمة لعملية التعلم في إطار التفاعل الصّفي المطلوب لابد من توفير بيئة التعلم الحافزة، وإتقان الأدوار الجديدة لكل من المعلم والطالب، وتوظيف الوسائل التقنية المطلوبة، واستخدام الأساليب التدريسية التفكيرية الحديثة المناسبة، وإشاعة الأجواء الصّفية المعززة الباعثة على الراحة والتحرر.

إن هذه الصورة تتطلب عملية تغيير جذرية شاملة للكثير من القواعد والأطر التي تقولب فيها وعليها الكثير من المعلمين والطلبة. وهذا ما نادت به عمليات الاصلاح والتطوير التربوي في معظم الدول منذ بداياتها عبر الأطر الفلسفية والتشريعية الحاملة لها، لكن شيئاً لم يحدث أو إن حدث فعلى استحياء غير مؤثر …………وحقيقة الأمر أن التغير الإنساني البطيء والمقاومة الطبيعية للتحديث قللت من أعداد القائمين على التغيير أو حاصرتهم حتى هذا العدد القليل – كادت تخنقهم، وتخنق من اقتنع بالتوجهات التحديثية وقدّرها وتبناها، ومارس توجهاتها ولو على نطاق محدود وضيق. وربما العذر يكمن في ضعف الاطلاع، وادعاء المحافظة على منظومة القيم، وقصور الأدوات، والاستكانة لفقر بيئات التعلم. إلى جانب الطبيعة البشرية التي تألف ما تعوّدت عليه وما أمّنت له. وفي هذا السياق يأتي هذا العرض ويكتسب أهميته من أولاً: شرحه لبعض الملامح القائمة سلباً كانت أم إيجاباً، وثانياً: كشفه عن بعض الأدوات والمنهجيات السائدة بما ييسر فهمها وأسرار تبنيها، وثالثا: شرحه لبعض الممارسات معدلاً بها ومقترحاً البدائل في حال تعذر التعديل بما يساير توجهات التطوير المنشود وتوجهاته وغاياته. ويتم كل ذلك في قالب واحد تتمازج فيه هذه الجوانب لتخرج بصور عملية قابلة للتطبيق كما سنعرض بعضها على النحو الآتي:

الصورة الأولى: لا بد من الإشارة بداية إلى جوهر الممارسة الديمقراطية في ضوء مجموعة الحقوق لكل من الطالب/الطالبة والمعلم/ المعلمة، وحفظ أداء الواجبات لكليهمـــا في نفــــــس الوقـــت. ويـــــقف على رأس هـــــذه الحقوق تحقيــــق (ديمقراطية التعليم) والتي تتلخص في تقديم ما من شأنه أن يتيح المجال لتعلم الطالب/الطالبة وفق ما تسمح به قدراته وإمكاناته وسرعته في التعلم. وهنا يكمن مبرر عملية تفريد التعليم، والنظر إلى الطالب/الطالبة كفرد علينا أن نحترم حاجاته الخاصة ورغباته وميوله وقدراته التي يختلف بها عن طالب آخر.

ويتزامن مع ذلك حق المعلم في: تأهيله المناسب ليتمكن من الكفايات الأكاديمية، وتدريبه اللازم ليتمكن من الكفايات الأدائية. والتي تشكل بمجموعها مع بعض الكفايات الأخرى من مثل: كفايات التواصل، وكفايات القيادة والتغيير، وكفايات توظيف التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال، وكفايات انتاج المعرفة، المعلم الذي نريد. المعلم المطلوب القادر على أداء دوره بفعّالية وتجدد، حيث بذلك نحترم المعلم كصاحب مهنة ونحترم المهنة كتنظيم من حقه ضمان مناسبة المنتسبين له ليؤدي الأدوار المطلوبة منه بفعّالية والذي سيُقيّم على أساسها. وهنا نضمن إيفاء المعلم لحقوق الطالب/الطالبة بالشكل والمضمون المناسبين عبر مواقف تعليمية ثرية متجددة، يوظف بها الوسائط التعلّمية المراعية لتفريد التعليم بشكل حافز مشوق، والمشيعة للمُناخ الصّفي الرطب الباعث على التواصل الحر الإيجابي، والفارضة للتقبل والإصغاء وتوليد الأفكار، والمحررة للطالب/الطالبة من الخوف والتردد، والشاحذ للذهن والتخيل والإبداع.

وعند تصور عملية التفاعل الصّفي في موقعها وعلى طبيعتها وفق هذا المنظور الجديد ندرك أن دور الطالب/الطالبة لابد وان يكون مشارك حقيقي في البحث عن المعلومات، وطرح الآراء، واستنباط الأحكام، وأداء الواجبات، وقيادة عملية التعلم. وأن دور المعلم ينحصر في توجيه عملية التعلم وتوفير متطلباتها من تخطيط وإعداد وتنفيذ يكفل تحقيق الأهداف المتطورة الموضوعة.

وهنا تصبح عملية عرض هذه الصور من خلال الأمثلة الحسية وربطها بمبرراتها العلمية، موضحة ومفيدة وعملية على النحو الاتي: –

البدء بالمتطلب التعلّمي القبلي كحق من حقوق الطالب/الطالبة، باعتبار أن متطلب التعلم الجديد يكمن في اكتساب الطالب/الطالبة للمعلومات والمهارات اللازمة لإدراكه. وهنا يتفاوت الطلبة بذلك، الأمر الذي يرتب على المعلم الكشف عن متطلبات التعلم الجديد وتحديدها من خلال الأسئلة الكاشفة والاختبارات القصيرة، والعمل على تلبيتها للطلبة المحتاجين لها قبل تدريس الوحدة أو قبل بداية تدريس كل هدف على حده بالطريقة المناسبة مع التأكد من ذلك. وهذا يقود المعلم إلى ضرورة تسكين جميع الطلبة على خط واحد في بداية الموقف الصّفي ليكون خط الانطلاق لهم جميعاً، وبهذا يتحقق العدل وتكافؤ الفرص.

الصورة الثانية: إدارة الموقف التعلمي بمفهومه الجديد كعملية تتمحور حول تكنيك التفاعل وآليات تنفيذ الأنشطة والفعاليات داخل الصّف وخارجه، سواء كان فردياً أم زمرياً أم جمعياً بما يخدم تحقيق الأهداف. باعتبار أن هذه العملية حق من الحقوق التي تتيح للطالب/الطالبة أن يتعلّم وفق قدراته وسرعته في التعلَم، كما تتيح للمعلم توزيع وقته واهتماماته وتوجيهه للطالب/الطالبة المحتاج اليه بشكل أكبر مقارنة بالأقل حاجة له. وهنا لابد للمعلم/المعلمة من أن يبدأ عملية التعلّم بالخطاب الفردي وأن يتابع ما توصل له كل طالب/طالبة عبر شكل من أشكال التفريد المتاحة، وهذا يسهل على المعلم/المعلم عملية التوجيه والدعم المبنية على حاجة الطلبة لذلك، وبعدها لابد من حوار الطلبة مع بعضهم من خلال المجموعات. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عملية توزيع الطلبة على المجموعات عملية هامة جداً، حيث أنها ترتبط بالهدف المرغوب تحقيقه من وراء عمل المجموعة، والأسس والمعايير المعتمدة لذلك. فإن كان الهدف متصلاً بتفعيل عملية التفكير فإنه لابد للطلبة من أن يتفاوتوا في القدرات داخل المجموعة، وإن كان الهدف متصلاً بتفريد التعليم فلابد أن يكون الطلبة متقاربين في القدرات داخل المجموعة.

وفي عمل المجموعات تبرز العديد من الحقوق أهمها تبادل الأدوار (قائد المجموعة، مقرر المجموعة، مؤقت المجموعة…. الخ) بين الطلبة، وإنجاز الأعمال المطلوبة، وعرض النتاج، ومراقبة المعلم لضمان مشاركة جميع الطلبة في أعمال المجموعة ونتاجاتها. والانتهاء في كل موقف تعليمي تعلمي بغض النظر عن عدد الحصص بحوار جماعي يتاح للطلبة القيادة فيه، وتبادل الآراء والخبرات، وأخذ التعزيز المناسب. فضلاً عن تعلم الطلبة من بعضهم بعضاً بشكل أفضل من تعلمهم من المعلم/ المعلمة أحياناً، أو ما يتناسب وهذا المنحى في التعلم خاصة لمن لديهم الذكاء الاجتماعي بشكل أعلى من غيرهم من الذكاءات المتعددة.

انضم إلينا على صفحة فيسبوك

You May Also Like