التربية الهادفة والتعليم المستدام
إعداد: د. يحيى أحمد القبالي
تسعى الأهداف التربويّة إلى إعداد المواطن الصّالح لنفسه ومجتمعه، ويُعد المنهاج الدّراسي الأداة التنفيذيّة لتحقيق الأهداف، وتحتّل القيم مكانةً واسعةً من المنهاج الدراسي من خلال ما تمّ اختياره من قيم أخلاقية وظيفية من قبل المختصين والتي يمكن صقلها وتنميتها في نفس الطفل وممارستها في المجتمع بأساليب متعددة تتوافق مع الواقع القائم، ومن هذه الأساليب: أسلوب القدوة، وأسلوب الترغيب والترهيب وغيرها من الأساليب.
تعريف القيم: تُعرّف القيم اصطلاحًا بأنّها جملة المعتقدات وطريقة التفكير وجملة المقاصد التي يسعى المجتمع إلى اكسابها لأفراده بحيث يتحقق فيها صلاحهم.
أمّا القاموس التربويّ فيعرّفها: بأنّها صفاتٌ ذات أهميّة لاعتبارات نفسيّة أو اجتماعيّة، وتعمل كمُوجّهات للسّلوك والعمل..
مصادر القيم:
تُستمد القيم من ثلاث مصادررئيسيّة، وهي: الدّين، الأسرة، المجتمع.
أولاً: الدين: قال رسول الله ﷺ ” إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وهذا القول يؤكّد بأنّ لا ديانة تخلو من فضائل القيم، فالديانات كافة خرجت من بوتقة واحدة وهي المصدر الإلهي الداعي إلى الطيب من القول والعمل.
وتنظر أغلب المجتمعات إلى القيم الدينيّة الروحيّة على أنّها نبراس الهداية وبها تحقق البشريّة سعادتها، فقد ورد على لسان الشاعر محمد قبال:
إذا الأيمان ضاع فلا أمان … ولا دنيا لمن لم يحيي دينًا
ومن رغب الحياة بغير دين … فـــــقد جعل الفنـــــــاء له قرينـــــــًا.
وفي علم النفس الإنساني تُعتبر ( الأنا الأعلى) هي أرقى ما يملك الفرد من قيم مستقاة من الدّين وتوجيهات وإرشادات الوالدين والمربين.
ثانيًا: الأسرة: تُمثّل الأسرة الحاضنة الأولى للطّفل في اكتساب القيم، ومن المعلوم ضمنًا أنّ الطّفل يكتسب أغلب قيمه من خلالها ، ثمّ المدرسة ، فالمجتمع ، وتسير وتيرة اكتساب هذه القيم بتسارع إذا كانت هذه المجتمعات الثلاثة متوافقة ومتسقة فيما بينها دون تضاد، فالأسرة تُهيئ الطفل لدخول عالمه القيمي بممارسة عملية مباشرة من قبل الوالدين والأخوة، فيتشرب هذه القيم حتى تصبح عادة لديه، ويقول الرّسول ﷺ في هذا الصدد: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه”
ويقول الشاعر أبو العلاء المعرّي: وينشأ ناشئ الفتيان فينا… على ما كان عوّده أبوه.
3-المجتمع : تتحكّم خصائص المجتمع بقيم الأفراد فهي الاطار المرجعي الذي يشتق منها المجتمع أهدافه، وتّعد العقد الاجتماعي الذي يحكم سلوك أفراده ، ففي المجتمع تتسع دائرة علاقات الفرد لتشمل: جماعة الرّفاق، والشّارع، ووسائل الاعلام، والنوادي، والمساجد، والمقاهي،… وقد يكون للعصبيّة الحظ الأوفر في انعكاس قيمها على الفرد فنجد ذلك التأثير في قول الشاعر دريد بن الصّمة: وهل أنا إلاّ من غزيّة إن غوت غويت… وإن ترشد غزيّة أرشد.
ولا ينتهي تعليم القيم واكتسابها عند مرحلة دراسية أو عمرية معينة ، بل يمتد إلى خارج أسوار المدرسة والجامعة. وفي ظل التغيرات المحليّة والإقليميّة والعالميّة تتبدّل بعض القيم فقد تلمس عدة انتماءات للأفراد في الأسرة الواحدة.
والتربيّة الهادفة تسعى إلى اكتساب الفرد للقيم ضمن خطوات ثلاث : تعليم، تثبيت، صيانة، فلا بد من ترسيخ تلك القيم فبها يتحصن الفرد من الأفكار الهدّامة ويستوعب من خلالها أي تغير طارئ على مجتمعه.
ولا يختلف اثنان على أنّ وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة قد زادت العبء على الأسرة والمدرسة والمجتمع بما تبثه في وسائلها المسموعة والمرئية، وقد تقف ثلاثتها مكتوفة الأيدي تجاه ما ينتجعن هذه الوسائل من نتائج يصعب التكهن بها أو ايقاف نزيفها.
ولا يستقيم التّعليم دون استقامة القيم، فكلاهما صنوان يتأثّر ويؤثّر بعضهما ببعض، وإذا أردنا استدامة التّعليم وتحقيق أهدافه على أتمّ وجه، فلابدّ من أن تسير القيم والتعليم في خطين متوازيين لا يطغى أحدهما على الآخر.
فالتعلّم الفعّال هو مزيج من القيم والمعارف، ويسعى إلى إشراك المتعلمين في عمل أشياء تجبرهم على التفكير فيما يتعلمونه، وعلى المعلّم إحداث الإثارة العقليّة ؛ لإكساب الطلبة معلومات، ومهارات ، وقيماً أخلاقيّة ، لتوظيفها في حياتهم، وخلق جوّ من المشاركة التفاعلية بين الطّلبة أنفسهم والطلبة والمعلّم ، مما يعني أنّ المتعلّم يُصبح مشاركًا نشط في العمليّة التعليميّة، بحيث يقوم الطّلبة بِطرح الأسئلة، وفرض الفروض، والاشتراك في المناقشات، والبحث، والقراءة، والتجارب والخبرات، ويطرحون ما لديهم من تساؤلات دون قيود في بيئة تعليمية آمنة تسودها الديمقراطية، بعيدًا عن أي تخوّف يجعل مما سبق حبيسًا في أنفسهم و لا يجرؤون على البوح به.
إنّ القيم ضمانة التّعليم وجوهره، وتعمل في الوقت نفسه كدالة على جودته، ومن نافلة القول أنّ القيم لا تعمل على استدامة التّعلّم فقط بل على استدامة الأمم، ونستشهد هنا بقول الشاعر أحمد شوقي: إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت… فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
وأنّ القيم لا تختفي من حياة الأمم فجأة بل تتلاشى على مدار أعوام وعبر الأجيال ، وفي هذه الحال تبقى طبقات في المجتمع محافظة على قيمها ومتمسكة بها وحريصة أشد الحرص على بقائها بالرغم من أنها قد تجد نفسها نكرة في مجتمعها وقد تعاني من الاغتراب، ولعل من بعض المصائب فوائد بعودة المجتمعات إلى قيمها الأصيلة، كالحروب والكوارث الطبيعية التي تعيد الصّفات الحميدة بين أفراد المجتمع كالتّعاون، واقتسام لقمة العيش، والإيواء، والتسامح… الخ.
فالقيم تحفظ الأمم وتُعلي من شأنها وتطيل في عمرها وتعمل في الوقت نفسه على حفظ ما وصلت إليه تلك الأمم من علم ورفاهية ، فقد روى العلاّمة محمّد عبده في زيارته إلى أوروبا : لقد رأيت إسلامًا ولم أرى مسلمين، حيث أنبهر من انتشار قيم المحبّة والتعاون وحبّ الغير والحفاظ على الأموال والممتلكات العامة ، واحترام الرأي والرأي الآخر…وكان العدل هو العلامة الفارقة في مسيرة تلك الدول.
ونرى في الجانب المقابل أنّ الأمم التي حفظت قيمها ثم فرطّت فيها قد سادت ثم بادت، فقد قال الله تعالى : ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
كيف نُعيد صياغة القيم في حياتنا؟
إنّ المحافظة على قيم المجتمع مرهونة بتضافر الجهود بشكل مشترك غير متعارض وضمن معايير تم تحديدها مسبقًا، بحيث يصبح السلوك الشاذ مستهجنًا من قبل الأغلبية، ولاكتساب القيم مستويات في حياة الأفراد، تسير في خمس خطوات:
المستوى الأول: الاستقبال: وهنا يشعر المتعلّم بوجود الظواهر والمثيرات والرغبة في الانتباه.
المستوى الثاني: الاستجابة: يتفاعل المتعلّم مع مثيرات محددة أو نشاطات وجدانية معينة من خلال بعض الأعمال المشاركة مع الموضوع الوجداني ليشعر بالارتياح والرضا.
المستوى الثالث: إعطاء قيمة ، يستطيع المتعلم إعطاء قيمة للشيء أو الظاهرة أو السلوك، وهذا المفهوم المجرّد للقيمة ناتج عن تقويم الفرد وتقديره ويتصف السلوك المرتبط بهذا المستوى بدرجة من الاتساق والثبات ويكون مبعثه الالتزام بالقيمة وليس الانصياع والمسايرة، ويأتي هذا المستوى في ثلاثة مستويات: تقبّل القيمة، تفضيل القيمة، والالتزام في القيمة.
المستوى الرابع: التنظيم القيمي: وفيه يُدرك المتعلّم العلاقات بين مجموعة القيم التي يلتزم بها ويكوّن تنظيميًا قيميًا يستدخل فيه القيم الجديدة بعلاقات واضحة مع غيرها من القيم مع وعيه بمستويات هذه القيم في علاقاتها.
المستوى الخامس: تمثّل القيمة، وفي هذا المستوى يتمثّل المتعلّم القيمة وينعكس ذلك بصورة واضحة وتلقائية ، في جميع مظاهر السلوك لديه دون تناقض أو تعدد المعايير.
بعد تلك المستويات ينطلق التعليم وبقوة مدعوما بالقيم ، وتسير المنظومة التعليمية على نور وهداية بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها.
صوت المملكة | التعليم وجودة المخرجات – YouTube