حول الانتقال من التعليم إلى التعلم التعليم من أجل المستقبل

حول الانتقال من التعليم إلى التعلم التعليم من أجل المستقبل

 2 التعليم من أجل المستقبل
حول الانتقال من التعليم إلى التعلم

جـمـال الـطـاهـات
التصورات اليقينية للمستقبل، عززت التفاؤل بإمكانيات التقدم، ولكن الإخفاقات والخيبات، وصدمات مواجهة الاوهام حول صور المستقبل، جلبت الكثير من التشاؤوم، لم يكن ممكناً لأي رؤية متفائلة أن تبددها، دون إلتزام حاسم بفعل يضمن على الأقل تجنب السيناريوهات الأسوأ. ففي ذروة اوهام السيطرة على المستقبل، جاءت دعوة جورج اورويل، في روايته عن عام 1984، وحملت ثنائية إبداعية استثنائية، التشاؤوم من المستقبل الموحش المرعب، والتفاؤل بإمكانيات منع حدوثه، والدعوة لفعل حاسم يمنع هذه السيناريوهات المستقبلية. عبر التحذير من المستقبل المرعب الذي يمكن لبعض ضحايا هوس اليقينيات، أن يفكروا بالسيطرة عليه وتعليبه بقوالب تفقد الإنسان إنسانيته. حماية المستقبل تقدمت عبر النموذج المعرفي الذي يحرر، من اوهام اليقين المعرفي، ويرد للإنسان تعاليه عن كل ما أُنتج او يتم انتاجه من معرفة، وتعيد وضع كل المعرفة الإنسانية في إطار مرجعي واضح: خدمة الارتقاء الإنساني

لقد تمت الإشارة في مقال سابق، بأن نموذج “التعليم” كجسر يربط بين حاضر مستقر، ومستقبل واضح الملامح، لم يعد يتناسب مع التحدي الراهن، والذي يتميز بحاضر سريع التحول، ومستقبل غامض لا يمكن تحديد المتطلبات المعرفية لمواجهة استحقاقاته بشكل مسبق. فلا توجد إمكانية واضحة لتحديد المعرفة الضرورية التي على خريجي المدارس أن يمتلكونها لمواجهة هذه المستقبل. ولكن يبقى المستقبل، بكل عدم يقينه، وممكناته، منتج لخياراتنا الراهنة، التي تصوغه حسب تصوراتنا وقيمنا وفهمنا للواقع

إن التحولات الراهنة، تفرض إزاحة واضحة لفكرة المدرسة، وأنه من الضروري تطويرها لتنسجم مع الانتقال من التعليم، كمهمة تنتمي للماضي إلى التعلم كمهمة تفرضها الإملاءات الموضوعية للحظة الراهنة بما فيها تصوراتنا عن المستقبل، والاستعداد لمواجهة حالة عدم اليقين التي تتسع هوامشها بشكل متسارع. وهذا يقتضي تطوير نموذج المدرسة الذي من شأنه المساعدة على تطوير المنظومة ككل، وانتقالها من “ماكينة إعداد” للخريجين، إلى فضاء لمواصلة التعلم المستمر. فليس الهدف مجموعة معلومات ومفاهيم مستقرة، وإنما مهارات جديدة، عنوانها الأساسي الالتحاق بمسيرة تطور المعرفة الإنسانية

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أننا لا نخترع هذا التحول، فالكثير من المجتمعات بدأت رحلتها من التعليم إلى التعلم منذ سنوات. والعنصر المشترك في العديد من التجارب، يتلخص في إحداث نقلة فكرية ومفاهيمية للانتقال من مدرسة مهمتها التعليم(ماكينة إعداد للاجيال)، إلى مدرسة مهمتها التعلم (فضاء لتحرير الاجيال من السيناريوهات المخيفة). وهذه النقلة الفكرية تتطلب إحداث قطيعة مفاهيمية وتصورية مع النموذج السابق، وبدء التفكير لإعادة تصميم المدرسة وفعالياتها لتنسجم مع المهمة الجديدة

الأساس الموضوعي للانتقال من التعليم إلى التعلم

الانتقال نحوالتعلم ليس (موضة)، ولكنه متطلب موضوعي للاستجابة للتحولات التي حصلت في العقود الأخيرة. وهناك عاملان حاسمان دفعا بقوة للانتقال من التعليم إلى التعلم

الأول متعلق بالتطور السريع للمعرفة. وهذا لا يطال فقط التطور الكمي للمعرفة، بل ويطال طبيعتها وتطبيقاتها. فلم تعد المغامرة العلمية تنتج معرفة يقينية ونهائية. بل معرفة ظرفية محددة بإطار مرجعي زماني ومكاني. فأهم تحول في المنهجية العلمية، هو أنها فيما مضى كانت تعزل الظاهرة زمانياً ومكانياً، لتكون النتائج قابلة لان تحمل فرضية أنها كونية وصالحة في كل زمان ومكان. أي أن كونية المعرفية (كشرط لموضوعيتها) كانت تستند إلى إغفال ظرفيتها. وهذا ما بدأت مراجعته منذ سبعينيات القرن الماضي. فاستناداً إلى أهم قواعد فيزياء النسبية وفيزياء الكم، بأنه لا يوجد إطار مرجعي كوني. تضمنت نظرية الشوش، إضافة لتفنيدها أحد قوانين الميكانيكا الحرارية، مقولة أكثر جرأة بالقول بأنه لا توجد قوانين كونية. واستندت نظرية النظم إلى ذلك للقول، بأن المطلوب تطوير نماذج التفكير، أو تصعيد الوعي بأننا لا نعرف الواقع، ولكننا نبني نماذج معرفية للتعبير عن تجربتنا في هذا الواقع. وأن ما نحصله من معارف عن الكون الخارجي مرهون بأدواتنا المعرفية. فالمعرفة وسيلة تفاعل، مع الكون، وليست منتج نهائي حول خصائصه وممكناته. وحدها فكرة السببية (مع بعض التعديلات) التي تصلح لأن تكون إطار مرجعي (ليس للكون نفسه) ولكن لمعرفتنا عن الكون. فهناك إزاحة حاسمة (للبعد الوظيفي للمعرفة). فهي تنتقل من كونها وسيلة للسيطرة على الكون والطبيعة، لتصبح وسيلة للتفاعل المستمر معها (ونحن جزء منها). وهذا فتح المجال لمجهود استثنائي لمراجعة مفهوم الحقيقة، وفرض تطور حاسم على المنظور الإنساني للمعرفة، أفضى إلى الانتقال من التعليم إلى التعلم

والثاني حماية المجتمعات من التضليل. وعنوانها ضمان تعالي الإنسان على أي منتج معرفي. فمع تزايد الميل العالمي لعسكرة المعلومات، واستعمالها كسلاح في الصراعات، وعنوان ذلك التضليل، من حيث هو وسيلة لقولبة الأفراد والجماعات (ليس حسب منتجات معرفية كونية مستقرة ونهائية) ولكن حسب معلومات تؤثر على تشكيل خيارات الأفراد والجماعات. يضاف إلى ذلك أن الذكاء الاصطناعي، لا يقتصر فقط على فكرة مراقبة سيل المعلومات ومحطاتها الإنسانية، بل وتضمن تعريض الأفراد لسيل محدد من المعلومات، لتوجيه خياراتهم وتشكيلها. عنوان عسكرة المعلومات، هو توظيف المعرفة كوسيلة للسيطرة على الإنسان (أفراداً وجماعات). وذلك باستغلال الصعوبة النظرية للتفاعل مع المعرفة المعاصرة، وخصوصاً في المجتمعات التي ما تزال ترزخ تحت وطأة التصورات القديمة للمعرفة. فالعديد من المجتمعات عرضة للعديد من المخاطر المصاحبة لتفسخ البنية الهرمية للمعرفة

مما سبق يمكن تلخيص دوافع وأهداف الانتقال من منظومة التعليم إلى منظومة التعلم ببعدين: الأول له طابع حضاري، وهو شرط من شروط التنمية والتقدم. وعنوانه تمكين الطالب والمعلم والمجتمع ككل، من متابعة التحولات المعرفية، وتهيأة المجتمعات لتصبح جزء من النشاط الإنساني الكوني في هذا المجال. فما دامت المعرفة غير يقينية، وغير نهائية، لا بد من مسير مستمر لمتابعتها. والثاني أمني قائم على أساس حماية المجتمعات من التضليل وآثار عسكرة المعلومات. فلم يعد تزايد الثروة المعرفية للمجتمع، دون ديناميكات تفاعل لتطوير هذه الثروة، مكسب مطلق. فالكثير من المعارف والمعلومات قد تكون وسيلة هيمنة وليست مركبة للتحرر والانعتاق والتقدم. ولا بد من توفير ديناميكيات محلية للتفاعل مع الثرورة المعرفية بوسائل جديدة، تضمن تحقيقها للأهداف التي نريدها نحن. حيث أصبحت حماية العارفين، مهمة مركزية في عملية توسيع الثروات المعرفية للإنسانية. وهذا الهدف لا يتعلق بوجود المعرفة والمعلومات نفسها (والتي تغري بإمكانية السيطرة عليها وتوجيهها بمنظومات فلترة- إجازة بعض المعرفة والمعلومات ومنع بعضها الآخر)، ولكن بتطوير قدرات الأفراد لطريقة التعامل والتفاعل معها، والتي تقتضي تسليحهم بتصورات منهجية جديدة لدى العارفين، وليس تحديد ما يمكن أن يحصلوا عليه من معارف

شروط وأدوات الانتقال من التعليم إلى التعلم

لا يوجد فرق في الهدف العام بين التعليم والتعلم (ويمكن تلخيص الهدف المشترك بأنه إيجاد منظومة تساعد المجتمع على تطوير ثروته المعرفية بشكل متواتر ودون انقطاعات). فالهدف، مستمر ومتجدد، ولكن وسائل تحقيقه مختلفة. وهذا هو منطق التطور، ومضمون التجارب الحضارية، ليس مراجعة الأهداف لتبريرها أو للتخلي عنها، ولكن لتطويروسائل وطرق تحقيقها. فحاجات الإنسان وأهدافه مستمرة ومتجددة، ولكن الوسائل وطرق العمل لإشباع الحاجات وتحقيق الأهداف مختلفة زمانياً ومكانياً. والتحول من طريقة أو وسيلة أو منظومة قديمة لإشباع الحاجات نحو منظومة بديلة، يجب أن يتم بطريقة تدرجية، وبآليات عمل يتم تقييمها بمعيارين: السرعة والفكاءة، وضمان عدم تهديد ديمومة العمل لتلبية الاحتياجات المستمرة

إن التحدي الأبرز الذي يواجه أي عملية إصلاح وتطوير هي وجود آلية عمل تضمن الانتقال الآمن والمؤسسي من منظومة التعليم إلى منظومة التعلم. فمن الضروري الحفاظ على المنجزات، والانتقال الآمن نحو قواعد الممارسة الجديدة دون انكسارات، ودون تعطيل. فليس المطلوب تفكيك ما لدينا واستبداله، ولكن تطويره وتشغيله بطريقة جديدة. فالمدرسة وغيرها من عناصر منظومة التعليم، مكاسب تراكمية يجب عدم التفريط بها، ويجب العمل على تفعيلها وتشغيلها لتحقيق أهداف مستمرة، ولكن بطريقة جديدة. إلا أن هذا الانتقال يتطلب تحقق مجموعة شروط، حتى يصبح بالإمكان تغيير مواصفات أداء عناصر المنظومة. فالمنظومات تتغير حين تتغير أهدافها (منتجاتها القابلة للقياس) وخصائص ومواصفات وطريقة أداء عناصرها، وبالتالي معايير تقييم الاداء الجديد. ولكن هذه العملية المعقدة، والتي تنطوي على كم هائل من التفاصيل، يمكن إطلاقها بإجراء تحولات حاسمة على المستوى الكلي (مستوى السياسات) في التعامل مع المنظومات. فهناك شروط لا بد من توفيرها لبدء عملية التحول والانتقال من منظومة التعليم إلى منظومة التعلم

الشرط الأول لعملية التحول هو توفر التصور عن المنظومة الجديدة، وعن مستويات وطبيعة التشابهات والاختلافات بينها وبين المنظوة الحالية وعن عناصر الاختلاف والتشابه في مُنتج كل منهما. ما الذي يمكن، ويجب الحفاظ عليه، وما الذي يجب أن يتم إحداث قطيعة معه. فإذا لم يتم رسم منظومة التعلم في الأردن، فلن تتم عملية الانتقال نحوها. وستبقى جهود الإصلاح والتطوير تعبير واستجابات متقطعة لأزمة خانقة، تقود إلى تعميقها، وليس للخروج منها. توفر تصور واضح عن منظومة التعلم، وتوضيح المنتج الذي ستقدمه هذه المنظومة، وكيفية انتاجه، هو الشرط الأساس لتطوير المنظومة الحالية، بشكل مؤسسي للوصول إلى المنظومة الجديدة

والشرط الثاني، الذي يتكامل مع الشرط الأول، هو توفر الإرادة والقيادة الفعالة التي تتبنى تصور واضح لمنظومة التعلم، وتؤمن بضرورة الانتقال إليها. فلا تكفي الرغبة بتطوير التعليم. بل لا بد من اكتمال شروط عملية التحول إلى منظومة التعلم بتوفير قيادة فعالة. الإيمان بضرورة التطوير والإصلاح (شرط ضروري ولكنه وحده غير كافي). توفر التصور عن المنظومة الجديدة (شرط ضروري ولكنه وحده غير كافي). فهناك حاجة لقيادة قادرة على إدارة عملية التحول من المستويات الراهنة للأداء، إلى مستويات اداء جديدة، لتحقيق تصور واضح لمنظومة التعلم التي نريد

والشرط الثالث والمطلوب من القيادة الكفؤة ضمان تحققه، هو مشاركة الأطراف ذات العلاقة. فأهم معيار لكفاءة القيادة، هو القدرة على حشد الموارد بطريقة فعالة، وليس القيام بالمهام نيابة عن عناصر المختلفة للمنظومة، او بتجميدها واقصائها. والترجمة العملية لمعيار (الكفاءة في حشد وتوجيه الموارد وتركيزها) في إدارة عمليات التحول في المنظومات، هو توفير وتشغيل “منهجية عمل” تضمن مشاركة عناصر المنظومة الراهنة في عملية التحول النشطة. وهذا يقتضي أن يكون التصور عن المنظومة الجديدة، مشترك بين كل المساهمين بالتحول نحوها، وأن تكون مهمام وخصائص الاداء الجديدة لكل طرف واضحة للجميع أيضاً. فوجود التصور، والقيادة، شرطان لتحقيق الشرط الثالث، وهو ضمان مشاركة عناصر المنظومة الراهنة في التحول بشكل فعال ومنتج نحو المنظومة الجديدة

فالتحول من منظومة التعليم إلى منظومة التعلم، لا تتحقق بمجرد اتخاذ القرار والرغبة بإنفاذه، فلا بد من قيادة فاعلة تتابع تحقيق تصور واضح، عبر جدول زمني قد يمتد من ثلاث إلى خمس سنوات. بحيث يتم صياغة الرحلة نحو منظومة التعلم بخارطة عملية توضح الإجراءات المطلوبة، وجدولها لزمني، وبما يضمن مرونة فائقة في عملية تحويل الموارد للعمل ضمن متطلبات المنظومة الجديدة. ويوجد في ترسانة الإدارة المعاصرة، العديد من (الأسلحة) والأدوات والوسائل التي تمكن من إجراء عملية التحول بأقل درجة من درجات الفوضى وعدم الاستقرار. إذ دائماً ما يرتبك الاداء، وتتزايد مؤشرات عدم الاستقرار في مراحل التحول من مستوى من مستويات الاداء إلى مستويات جديدة. فالتطوير متلازم مع ارتفاع مؤشرات عدم الاستقرار، ولكن علم وتقنيات الإدارة، قدمت الكثير من اجل إجراء التحولات وإدارتها بأعلى درجة من درجات التماسك والانتظام

أهم خصائص منظومة التعلم

لما كان التصور عن منظومة التعلم، هوالشرط المركزي لتطوير منظومة التعليم التي لدينا، والانتقال بها نحو منظومة التعلم التي “تنتج منتجاً معرفياً جديداً”. فلا يمكن توفير الشروط الأخرى (القيادة والمشاركة) دون توفر شرط التصور المشترك. وربما هذا هوالعنصر الوحيد المشترك بين التصورات الهندسية لتراكمية العمل وتتابعه، مع تطوير المنظومات. توفر التصور بشكل مسبق. وعليه يكون السؤال الحاسم والمركزي هو حول خصائص منظومة التعلم؟ والتشابهات والفروقات بينها وبين منظومة التعليم؟ وعناصر الشبه والاختلاف بين منتج المنظومتين، وعلى رأس هذه الأسئلة آليات العمل الجديدة التي ببدء تطبيقها نحصل على منظومة جديدة

تمت الإشارة أعلاه، إلى أن التعلم هو استجابة لتحلل فكرة كونية المعرفة ويقينيتها، وأن المعرفة وسيلة للتفاعل مع الواقع المتغير، وليس لقيادته والسيطرة عليه. لذلك، يمكن القول وبدرجة ثقة عالية، أنه لا يوجد نموذج كوني لمنظومة التعلم، فمثل هذا النموذج اليقيني، يتناقض مع الفكرة التي انشأته. ولكن، بدلاً من النموذج الكوني الموحد النهائي، يوجد تصور عالمي إنساني لمهمات هذه المنظومة، وأبرز خصائص آليات عملها. وعلى كل مجتمع أن يطور نموذجه الخاص حسب واقعه، وبيئة عملية التعلم، وكيف ستبدأ وكيف ستعمل في المستقبل القريب

وحتى يصبح الحوار الوطني ممكناً في هذا الجانب، لا بد من عرض أهم وأبرز خصائص عملية التعلم. وهي أنه يختلف عن التعليم الذي كان يتألف من (حصة او درس في غرفة صفية، ثم واجبات منزلية). فالتعلم سلسلة أنشطة تتضمن متابعات معرفية عبر وسائط المعرفة المختلفة المتاحة الآن، من الأفلام السينمائية، إلى الحوارات عبر وسائط التواصل الاجتماعي، إلى الاشتباك بالحوارات المباشرة، وتراجع نصيب حصص الغرف الصفية من 50%، إلى أقل من ذلك بكثير. إذ أن بروز الأنشطة المعرفية التفاعلية المختلفة، لم يقلل فقط من نصيب الدروس في الغرف الصفية، بل قلل من فاعلية صيغ وتقنيات الوعظ والإرشاد، وفرض بشكل حاسم منطق الاداء. ليس فقط لتعزيز جاذبية المادة التي يتم تقديمها، بل لضمان تحولها من (معلومة) خارجية، يتم التعرف عليها، إلى أن تصبح موضوعاً للتأمل والتفاعل. إذ أن تداعي هرمية المعرفة، يترافق معه بشكل متزامن تداعي تقنيات الوعظ والإرشاد بشكل حاسم

ونقطة الانطلاق لاحتواء تفكك هرمية المعرفة، هو إنشاء ديناميكا جديدة للتعامل مع المعرفة (انتاجاً وتعميماً) كنشاط اجتماعي محلي، وليس نشاط مركزي (تديره وتنفذه) الحكومات عبر أدوات مركزية، تقدم منتجات معرفية نهائية. فأهم ميزة لللانتقال نحو منظومة التعلم هو تغير موقع وطبيعة ودور أجهزة الحكومة المركزية وأدواتها، فدور الحكومة المركزية في إدارة وتوجيه منظومة التعليم، لا تنسجم مع منظومة التعلم. فلا يمكن الحديث عن منظومة جديدة (التعلم)، إذا استمرت إدارتها بذات الوسائل والادوات القديمة، التي تنتمي إلى منظومة التعليم. وهناك خطوات مركزية للانتقال نحو المنظومة الجديدة، أبرزها

أولاً: جعل المدرسة جزء من الفضاء العام للمجتمعات المحلية، وإتاحة مرافقها ما لا يقل عن 16  ساعة يومياً، لانشطة التعلم المختلفة. المدرسة هي المحرك المركزي لكل من منظومة التعليم والتعلم. ولا بد من تطوير خصائصها ومواصفاتها حتى تنسجم مع تحولها من “ماكينة تعليم” إلى جزء حيوي وفعال من الفضاء العام للمجتمعات المحلية. وهذا يتطلب تطوير قواعد (وأدوات) إدارة واستثمار وضبط للمرفق المدرسي. فمعدل استثمار المرفق المدرسي في الأردن، لا يزيد عن 20%. وهذا يعني أن هناك ثروة هائلة (موجودة في المرافق المدرسية) يتم تبديدها بعدم استخدامها. إذ أن تعليمات وزارة التربية والتعليم المتعلقة بإدارة المرافق المدرسية بشكل مركزي، تعيق محاولات توظيف المرفق المدرسي، كإطار لعملية التعلم المستمرة. كما أن قصر وقت التعلم على الحصص فقط، يفوت الفرصة لتوظيف وسائط التعلم المختلفة، بما فيها السينما، والمسرح، والانشطة التفاعلية التي تضمن تطوير مهارات التعلم نفسها، عبر المدرسة، كضامن لأن تبقى عملية اكتساب المعرفة نشاطاً جماعياً. وهذه الخطوة يمكن تحقيقها بنقل إدارة المرافق المدرسية إلى البلديات، وهيئات المجتمع المحلي

ثانياً: التمييز بين أهداف المنهاج ومادته المعرفية. لما كانت أحد أهم القوى الدافعة نحو التعلم هي التحولات المعرفية، فلا بد من مراجعة تقنيات وآليات تطوير المنهاج. وهذا يتطلب التمييز الواضح بين ركني المنهاج: الأهداف، والمادة المعرفية التي من شأنها تحقيق هذه الأهداف. وهذا التمييز ضروري لتضييق الفجوة بين المنهاج الرسمي (الذي يجب أن يحدد بأهداف المنهاج)، والمادة المعرفية التي تحقق الأهداف، والتي يجب تطوير آليات خاصة وبرنامج محدد لإشراك المعلمين في إعداد هذه المادة. فمثل هذه المشاركة، تمثل أحد أهم الضمانات لتقليل الفجوة بين المنهاج الرسمي، والمنهاج الثالث (ثقافة وقناعات المعلمين بالمادة التعليمية التي يقدمونها للطلاب). فمن الممكن أن تقوم وزارة التربية، كسلطة مركزية (مع المركز الوطني للمناهج) بتحديد أهداف منهاج كل تخصص في كل صف. ثم يدعى مدرسي هذا للمشاركة بانتاج المادة المعرفية التي تحقق الهدف. ويمكن لتنظيم هذه العملية والاستفادة منها، تفعيل فكرة جمعيات أو شعب معلمي التخصص في نقابة المعلمين، وتطوير هذه الجمعيات او الشعب علمياً، وضمان تعاونها مع كليات التربية المختلفة. بحيث يكون لدينا بعد حين، جسم مهني متطور وقادر على توجيه الانشطة المعرفية للطلاب، بما يضمن تحقيق أهداف المنهاج. وأيضاً وجود إطار مرجعي موضوعي لتقييم المعلمين ومتطوير مساراتهم المهنية، وبرامج تأهيلهم بشكل متكامل

ثالثاً: تطوير معايير ووسائل جديدة للقياس والتقييم والتقويم، معتمدة على (وحدة انتاج عملية التعلم). والسؤال الأبرز هنا: ما هو المنتج الذي ستقدمه عملية التعلم، وكيف سيتم قياسه كمياً ونوعياً؟ وكيف ستتم إدارة عملية التعلم وضبطها وتوجيهها؟ هذه الأسئلة تتطلب تطوير بروتوكول الممارسة الذي يحكم دور المعلم في عملية التعلم. وهو بالضرورة مختلف عن البروتوكول الذي يحكم ممارسة المعلم ضمن منظومة التعليم، وتحديد مهامة التي تحقق أهدافها. كما أن تطور وسائل التواصل بين المعلم والطالب، يغير من طبيعة الاداء والوقت الذي يجب أن يقدمه المعلم للطلاب. من جهة أخرى، فإن معايير قياس الأداء، يجب أن تنعكس على كل من الطالب والمعلم والإدارة التعليمية في مستوياتها المختلفة. فلا يمكن لمدرسة تحصيل طلابها متدني أن يحصل معلموها وإدارتها على تقييم مرتفع. تغيير أهداف التقييم وربطها بالتقوييم، يتطلب تطوير مؤشرات قياس جديدة متعلقة بتعريف جديد للمنتج (أو الخدمة) التي تقدمها منظومة التعلم. فالتعليم يقاس بمدى فهم الطلاب للمادة المعرفية المحددة في المنهاج. ولكن هل هذا هو مقياس التعلم؟؟ فكيف سنحدد ناتج منظومة التعلم، وكيف سنقيس مدى فاعلية الاداء لكل عنصر من عناصر منظومة التعلم. وما هي المؤشرات الكلية؟ وما هي مؤشرات أداء كل عنصر من عناصر منظومة التعلم. والمتطلب العملي الأساسي، هو فصل إداري حاسم ونهائي، بين أجهزة الرقابة والتقييم، وبين الأجهزة التنفيذية. وهنا يمكن لوزارة التربية أن تستبقي سلطة الرقابة والتقييم والتقويم، وتمنح البلديات والهيئات المحلية بعض السلطات التنفيذية، وتشرك الجامعات وكليات التربية بمهام أخرى. على أن يجري كل ذلك تحت إشراف الوزارة كطرف مركزي يتابع مهامه الجيدة بطريقة جديدة. ولكن بقاء وزارة التربية هي ذات الجهة التي تصمم الخطط منفردة، وتدير منفردة عمليات التنفيذ، ثم تحتكر منفردة عمليات التقييم والتقوييم صيغة عمل لم تعد منتجة. فمثل هذا التداخل للمهات، يؤدي إلى شلل عملية التعلم، ويمنع بروز عناصرها كأنشطة وفعاليات واضحة المعالم وقابلة للقياس، ويجعل الانتقال من التعليم إلى التعلم مهمة مستحيلة عملياً وتطبيقياً

كلمة أخيرة

هناك الكثير مما يقال عن مواصفات وخصائص الطالب الجديد، والمعارف التي يجب أن يحصل عليها، وأنها مختلفة عن التقلين. فلم يعد يكفي التحصيل المعرفي للطالب كفرد، فالحفظ والفهم بشكل فردي لم يعد يلبي الطموح. فأغلب ما يقال هو تعبيرات بسيطة وغير واضحة عن تحول فكرة المعرفة نحو طبيعتها الجماعية (انتاجاً واكتساباً وتوظيفاً). ولكن مثل هذا الهدف (التحول نحو جماعية أنشطة اكتساب المعرفة) لا يمكن تحققه عبر عملية التعليم، فهناك ضرورة لإحداث نقلة نوعية تعيد التفكير بنشاط اكتساب المعرفة نفسه باعتباره نشاط تفاعلي جماعي، وليس نشاطاً فردياً. وهذا هو أحد أهم مداخل تحديد ورسم ملامح المنتج الجديد لمنظومة التعلم. ليس فقط معرفة وافية حسب أهداف المنهاج، ولكن أيضاً مهارات تعلم مستمرة عبر التفاعل مع كل المصادر الشبكية الجديدة للمعرفة، وهي بحكم طبيعتها مصادر تفاعلية جماعية تستثمر التحول نحو أفقية المعرفة. فما توفره وسائط التواصل وثورة الاتصالات هي فرصة حقيقية لاكتساب المعرفة وتداولها كنشاط جماعي، يجب العمل على تحليله، وإعادة بناء الأنشطة اليومية للمدرسة بما ينسجم معه، وذلك بجعلها جزءاً من الفضاء العام الذي يسمح بالتحاق الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات بالفضاء المعرفي الجماعي بشكل فعال

أقرا المزيد

You May Also Like