الإفلاس الأكاديمي
بقلم: د. يحيى أحمد القبالي
يعيش الأكاديمي المخلص –سواء المعلّم في المدرسة أم الأستاذ الجامعي– حالة من الاغتراب الاجتماعي تجعله يشعر بأنّه جزء ميكانيكي وظيفي يؤدي دورًا آليًا ضمن المنظومة التعليميّة غير قادر على التعبير حين يرى سلوكه شاذًا ولا يتناسق مع سلوك كثير من أفراد مجتمعه، و يدرك سبب ذلك يقينًا فلا يُصاب بالاندهاش حيث يعيش الإفلاس الأكاديمي معاينةً في كلّ ما يُحيط به من منظومة تعليميّة تعاني التّرهل الإداري وعدم القدرة على صناعة واتخاذ القرار.
ولقد ورد في معجم المعاني الجامع معنى الإفلاس: أفلس إفلاسًا، فهو مفلس.
ومعنى المُفلس لغة: هو الذي أصابه الفقر وفقد ماله بعد أن كان ذا مالٍ وسعة، وهو من لا مال له إلّا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال.
والمعنى الاصطلاحي للمُفلس: هو من كان عليه ديون وحلّ أداؤها وقصرت أمواله عنها، مع مطالبة أصحاب الديون له فيحجر عليه الحاكم؛ لتوزّع أمواله على الغرماء كلّ حسب حصّته.
الإفلاس الأكاديمي: وقد يتساءل البعض عن معنى هذا المصطلح رغم مالديه من صورة ذهنيّة عن معنى الإفلاس مسبقًا، والمقصود بمصطلح الإفلاس الأكاديمي هو: وجود إمكانيات ماديّة وبشريّة أكاديميّة (مدارس وجامعات ومناهج ومساقات دراسية ومعلمون …) ، ولكن النتائج أقل من المأمول بكثير.
إنّ الهدف الأسمى للمنظومة الأكاديميّة بشكل عام هو توفير البيئة الأكاديميّة والبحثيّة والنفسيّة والاجتماعيّة الدّاعمة للتفوّق والتفكير، والإبداع، والابتكار، وصقل المواهب، والوصول إلى أقصى ما يملكه الطلبة من قدرات، وتوظيفها في مكانها الصحيح ، وتبسيط كآفة الموارد المتاحة للمجتمع.
وهذا الواقع يُلزم القائمين على المجال الأكاديمي بتوفير إداريين تربويين وأساتذة جامعات أكفاء لقيادة الأجيال؛ ليكونوا في موقع المسؤوليّة وقادرين على استيعابه والتعاطي مع الوضع الأكاديمي بقناعة تامّة؛ لأنّ الإفلاس الإداري يُفضي بالضرورة إلى إفلاس مالي وأكاديمي، ففاقد الشيء لا يعطيه،
ومن مظاهر الإفلاس الأكاديمي:
- – التخبّط في القرارات الإدارية وتنازع صلاحياتها.
- – أن يصبح التعليم امتيازاً وليس حقًا.
- – هجرة العقول، وخاصّة الأساتذة الجامعيين.
- – أن تُصبح المجالس الجامعيّة الأصل وليس الاستثناء.
- – الوضع المالي المتردّي للجامعات.
- – ضعف الترتيب العالمي للتصنيف الجامعي.
- – التردّد في تنفيذ القرارات الإدارية سواء الجامعيّة ام المدرسيّة.
- – خوف الطلبة الجامعيين من المستقبل الغامض.
- – ارتفاع الرسوم الجامعية المجحفة بحق الطلبة، ويُعدّ ذلك خصخصة مقنّعة للتعليم الجامعي.
- – التذبذب في معايير القبول في التخصصات الجامعيّة من جامعة إلى أخرى.
- – عدم تناسب أعداد الخريجين مع حجم سوق العمل.
- – ضعف تنبؤ الجامعات لحاجات سوق العمل ممايؤدّي إلى عدم امتلاك الخريجين لهذه المهارات.
- – البناء المدرسي المتهالك والآيل للسقوط.
- – البيئة المدرسيّة الطاردة، وزيادة حجم التسرّب المدرسي.
– التأهيل الضعيف للمعلمين وانعكاسه على مستوى الطلبة، ومن صوره فقر التعليم.
- – اكتظاظ اليوم الدراسي بالحصص الدراسيّة.
- – افتقار كثير من المدارس لوسائل السلامة العامّة.
- – انتشار الاضطرابات السلوكيّة والانفعاليّة بين طلبة المدارس.
إننا أمام مأساة حقيقيّة وواقع مأزوم لا تقف تبعاته عند أسوار المدارس والجامعات وحسب بل تتعدى ذلك إلى كآفة أطياف المجتمع الذي يئنّ تحت نير الفقر، ومما يزيد الطين بلة هو وجود بعض الأساتذة الجامعيين المفلسين والمتعالين عن سماع الآخر بل والاستخفاف بقدراته، وفي الوقت نفسه يسكنهم الخوف ممن يملكون قرار وجودهم من عدمه في جامعاتهم، مما يترك علامات استفهام كبيرة لدى الطلبة لضعف كفاياتهم المعرفيّة ، في حين أن المرء يقف مندهشًا حين يشاهد أسس التعييّن في الجامعات والتي لها بداية وليس لها نهاية، وسقف التأهيل المرتفع التي تطلبه الجامعات لمن سيتقدّم لوظيفة أستاذ جامعي وكأنهم يبحثون عن ( الرجل الخارق) بأعلى المعايير المهنيّة العالميّة، وواقع الكثير من الأساتذة الجامعيين بخلاف ذلك.
أمّا المدرسة فقد وتم انشاؤها لتقديم لتنوير وتثقيف ووإيجاد المواطن الصالح، ورفد المجتمع برأس مالٍ فكري يضمن للمجتمع رفاهيته ويحافظ على كينونته، وغرس الاتجاهات والقيم المتمثّلة ب: مبدأ المسؤولية، واحترام القانون، والتسامح، والعدالة الاجتماعيّة ، والحريّة المسؤولة، وتقديم الانتماء الوطني على أيّ انتماء عائلي، أو جهوي، أو سياسي… وبناء نظام الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدّولة ومواطنيها… ولكن وللأسف لم تعد المدرسة تقوم بالدّور المنوط بها، فهي تنوء تحت وطأة المسؤوليات المتعددّة والتي جرّدتها من دورها في كثير من الأحيان، فلم تعد تتسع لهذا الكم الهائل من القرارات المتضارب أكثرها والمتنازع الصلاحيات، وأصبح الطّالب والمعلّم يشعر بالبون الشاسع بين النظرية والتطبيق يسوده التناقض، وأصبحت مظاهر العنف ظاهرة اجتماعية.
قد لا نجد في أنفسنا مكانًا للأمل في إصلاح المنظومة التربوية في الوقت الحاضر، ولكن يحدونا الأمل أن تكون هناك وقفة جادّة من أصحاب الضمير العامر بالعلم والانتماء، لإعادة الرونق للتّعليم وللمدرسة مكانتها وللجامعة ريادتها للمجتمع ضمن عمليتين متزامنتين هما النّمو والتغيير بتكيّف مرن وفقًا للاحتياجات المجتمعيّة.
وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)