الإبداع وأجيال المستقبل
بقلم: د. يحيى أحمد القبالي
تسعى المجتمعات كافة وبلا استثناء لاكتشاف ورعاية أفرادها الموهوبين والمتفوقين، لعلمها الأكيد بأنّ تقدّمها ورفاهيتها تكمن بقدراتهم العقلية التي إن توفّرت لها البيئة المناسبة تفتقت عن إبداعات وابتكارات وأفكار إبداعية ومكتشفات تجعل من هذه المجتمعات في مقدّمة الأمم، والكشف عن الموهوبين والمتفوقين واجب وطني وأخلاقي ويُعدّ الاستثمار الأمثل في رأس المال البشري، ولطالما تردّد السؤال: كيف ننشئ جيلًا مبدعًا؟ ولعل بداية الإجابات عن هذا السؤال هي: أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، ونعني بذلك يجب أن يكون القائم على اكتشاف ورعاية الموهوبين والمتفوقين من ذوي الاختصاص وملمًا بأسراره ومطلعًاعلى التجارب الدوليّة السابقة وقادرًا على مواءمة ما يصلح لتطبيقه في بيئته، ونحن على يقين بأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، لأنّ ذلك الأمر يترتّب عليه هدر للموارد وضياع للوقت وتشويش على خطط من سيأتي لاحقًا، ولعلنا من خلال الاطلاع على تجارب كثير من الدول وبخاصة النامية منها لمسنا وبوضوح تامّ فشل برامج رعاية الموهوبين والمتفوقين، وكان السبب الرئيس هو اسناد الأمر لغير أهله، والتركيز على جانب بل جزئية واحدة وهي (الإبداع) والابتعاد عن مكونات الموهبة والتفوق من مفاهيم ومصطلحات يشكّل الإبداع أحدها ولعله أهمها ، ولا تعني تلك الأهمية أن تعكف الوزارات والمؤسسات وغيرها بالتركيز على الإبداع دون التطرق لما سواه من مفاهيم ومصطلحات مثل الموهبة، والتفوّق الأكاديمي، والتفوّق العقلي، بالإضافة إلى البيئة ومكونات الشخصيّة التي لا يتحقّق الإبداع إلا بتكاملها، ولا يقتصر هذا الأمر على الوزارات بل على المراكز التدريبية والدورات والمؤتمرات التي قلما تجد فيها مختص في مجال الموهبة والتفوّق وتجدها رافعة شعار الإبداع أينما حلّت وجاعلة منه شغلها الشاغل، وفي الوقت نفسه لا يجد المتابع أي تغيير أو تقدّم في هذا المجال، فما دام أنّ الواقع التربوي مترهل وغير قادر على الوفاء بمتطلبات الأجيال فمن الواجب وضع ملفات التعليم–وهي أساس التقدّم– على الطاولة والتفكير بمخرج مشرّف لهذا الواقع المأزوم ، فبناء جيل قادر على قيادة المجتمع مستوعبًا للمتغيرات السريعة واعٍ لما يدور حوله وقادرًا على التغيير يتطلّب الكثير من الجهد والجد والتخطيط والتوجيه والإرشاد، وذلك يتطلب استيعاب كلّ من:
*البعد النفسي للطلبة الموهوبين والمتفوقين: يحتاج كلّ من الموهوب والمتفوق أكاديميًا والمتفوّق عقليًا بيئة حاضنة تلبّي إحتياجاتهم، وبرامج إرشادية تُعيد التوازن لوضعهم النفسي إذا ما اعتراه مشكلات ؛ حتى يدركوا أولئك الطلبة بأنّ العلم حقّ وليس امتيازًا ،هذه العبارة هي التي تحدّد مسيرة الطالب المهنية مستقبلًا فتكافؤ الفرص هو العنوان العريض الذي يعمل على استقرار الحالة النفسيّة للطالب فلا خوف على الحاضر والمستقبل، وتشكل الحالة النفسية المستقرة للطالب حافزًا للإقبال على العلم والتعلم لإيمانه بحقه المصان وبذل أقصى قدراته لمنفعة أمّته و نفسه.
*عصر الذكاء الاصطناعي: فبعد أن كان الذكاء الاصطناعي حاضرًا منذ زمن بعيد في مخيلة البشرية أصبح حقيقة تحاكي الذكاء البشري وتنوب عنه، وهذا يتطلب التكيّف مع المتغيرات وتذليلها وتهيئة الطلبة لمتغيرات المستقبل ليس على مستوى التكنولوجيا فقط بل على جميع الأصعدة التي من شأنها صقل شخصيته وتجعل منها شخصيّة عالمية، قابلة للتأقلم في كل زمان ومكان حتى يتمكن من استشراف المستقبل والسعي بثقة لحجز مكان متقدّم بين الأمم.
*الأسرة: تربيتنا مرآة تعكس ثقافتنا، فالمسؤولية الملقاة على كاهل الأسرة ثقيلة جدًا فكلما كان الاهتمام بالطفل متوازنًا بكافة أشكال نموه ، شكّل هذا الاهتمام نواة تكوين شخصيتة منذ بواكير حياته، والطفل مرآة أسرته، وتهيئة سبل العيش الرغيد للأسرة مسؤولية الدولة لتتفرغ الأسرة لتربية أبنائها لخدمة مجتمعهم ورد الجميل له، وإذا ما دخل الطفل المدرسة أصبح مرآة معلّمه.
*المدرسة: هي الحاضنة الثانية للطفل بعد أسرته، وعليها تُعلّق الآمال في إنشاء جيل مهيأ للمستقبل فالتعليم من أجل المستقبل هو هدف لا غنى عنه ، ولا يكون ذلك بغير بناء مدرسي متكامل تحرسه وتديره إدارة مدرسيّة واعية بتشاركية كاملة مع المعلمين لتحقيق أهداف المناهج المدرسية التي تمّ دراستها بعناية ولها ارتباطات وثيقة بالأنشطة المدرسيّة الموجّهة.
ولا يمكن تغافل دور المعلّم –الأب الثاني للطفل– صاحب الرؤية الثاقبة والشخصية المؤهلة لقيادة الأجيال، ويعمل منسبو المدرسة كأسرة متآلفة في احتضان الطلبة كلّ حسب موقعه.
*بناء العقول: إنّ أول دور تقوم به المدرسة هو تنقية العقول وتنقية السلوك، وصهر تلك السلوكيات في بوتقة متجانسة ترعاها بالإرشاد والتوجيه، وإن تنقية العقول وغربلة ما تحتويه من أفكار هي أولى خطوات بنائها، حينها يشعر الطلبة بحجم المسؤولية التي سيضطلعون بها مستقبلًا، فيجب أن يكون شعار المدرسة: طالب اليوم قائد المستقبل، ولا يعمل القائد منفردًا بل يعمل بروح الفريق من خلال انتمائه لأمّتة.
*صانعو القرار: يتكون الهرم التربوي من سلسلة من صانعي القرار الذين تترجم خططهم إلى واقع، وعمق تلك الخطط مؤشر على مدى ثقافتهم وواسع افقهم وتحسسهم للواقع التربوي واحتياجاته، والعمل الدؤوب على أخذ التغذية الراجعة بعين الاعتبار لتحسين الخطط واختيار أسهل الطرق لتحقيق أهدافها، فهم من يتخذون القرار بحكم موقعهم ولثقة الدولة بهم. والطالب بحاجة إلى قدوات صالحة يقتدى بهم حاضرة و سابقة وهم بحاضرهم يمثّلون بعض القدوات، وهذا الأمر يلزمهم أخلاقيًا ودينيًا واجتماعيًا بأن يكونوا على قدر تلك المسؤولية، ويعوّل المجتمع على من يقوم باختيار تلك الكفاءات ففلذات أكباده بين أيديهم.
*التجديد التربوي: من الجميل مواكبة التطورات العالمية والتماشي مع كلّ ما يصلح لكلّ جيل ، فالعملية التربويةّ عملية تتصف الديناميكية فهي سريعة التغيير؛ لأنّها تراكم خبرات أجيال وأمم، وكلّ تغيير يصيب المجتمعات له انعكاساته على المدرسة وشخصية الطلبة، فلا مندحوة من تقبّل التغيير والعمل بمقتضاه، ولكلّ زمان دولة ورجال.
لقد ارتبط مفهوم الإبداع في الذاكرة الجمعية للمجتمعات بالناحية التكنولوجية وانصب جل اهتمامهم لتربية جيل قادر على الإبداع، وتناسوا الفروق الفردية بين الطلبة، فتحمّل كثير من الطلبة حملًا زائدًا عن طاقتهم من خلال حشو المناهج بمهارات تفكير عليا ، بالإضافة لترحيل المناهج من صف أعلى إلى صف أدنى مما ساهم في خفض دافعيتهم للتعلّم، وخسر المجتمع طاقات لو تمّ تلبية احتياجاتها حسب قدراتها لوجدنا تنوعًا مدروسًا في المجتمع في كافة المجالات ، وهذا يعني : أنّ المبدعين(المخترعين) جزءًا لا يتجزأ من المجتمع وشريحة تكمل دورة حياته ولا يمكن بحال من الأحوال صناعة المبدعين بل توفير بيئة حاضنة لهم يعبرّون من خلالها عن قدراتهم لدفع عجلة التنمية قدمًا، وإذا ما استعرضنا حياة المجتمعات المتقدمة وجدناها توازن بين احتياجات الطلبة والاهتمام بالشخصية المتوازنة بغض النظر عن قدراتها، فالاختلاف هو الأصل، وبهذا يصبح أفرادها قادرين على خوض غمار المستقبل ؛ لأنّ المستقبل لا يتحقّق إلاً جماعيًا ومن خلال ردم الهوة بين النخب وأفراد المجتمع، إنّ النظرة إلى صنع طلبة مبدعين في الجانب التكنولوجي فقط هي نظرة قاصرة لاتصنع مجتمعًا متكاملًا ، فتقبّل الطلبة كما هم وتنوعهم تجعل أجيال المستقبل أجيالًا مهيأة للانتقال السلس لمستقبل ينتج على أثره التعلّم للمستقبل .
وزارة التربية والتعليم (moe.gov.jo)