إشكاليات التعليم: نهضة أم إصلاح؟

إشكاليات التعليم نهضة أم إصلاح د خلف عليمات

إشكاليات التعليم: نهضة أم إصلاح؟

د. خلف عليمات

يعد التعليم عملية اجتماعية غائية تتسامت إجراءاتها في بناء الفرد وصولاً للحياة الطيبة بمفهومها الأوسع وأبعادها الأشمل، كما أنّه ديناميكية تطورية مستجيبة للتحوّلات المحلية والعالمية بما يكفل إحداث التكيّف المطلوب لاستمرار سمات تلك الحياة الطيبة. وتشكّل القيم الإنسانية الجامعة الجينوم التربوي الذي يجب أن يشتغل عليه المربون – ترقية وتزكية وتهذيباً – في تخطيطهم وبرامجهم ومناهجهم وتقويمهم، في حين تشكل المعارف والمهارات وطرائق التفكير وعادات العقل النواتج النامية على ضفاف مسار القيم وتطورها. وبذا، يجب أن يتوجه أي نظام تربوي نحو القيم باعتبارها الشيفرة الإنسانية (genotype) التي لا تتغير على مر الزمان؛ كاحترام الكرامة الإنسانية، وتقدير العلوم، والعمل الصالح، وغيرها كثير، في حين تتغير المعلومات والمعارف والمهارات وطرائق التفكير باعتبارها أنماطاً ظاهرية (phenotype) وفق مقتضيات الحال أو طبائع المشكلات قيد الدرس أو أدوات البحث المتاحة حينها أو مستوى تقدم البشرية في مسارها الحضاري.

ولم تزل القيم الإنسانية الجامعة – على مر التاريخ وفي مجملها أو في جوانب منها محط اهتمام الأنبياء والعلماء والفلاسفة والمصلحون والمربون ومحل جهدهم لضمان الحياة الفضلى للأفراد والمجتمعات، في حين لم يتغير في مسار البشرية إلا المعارف والمهارات والأدوات والتي تطورت تراكيماً – أو ثورياً – في معرض تفاعل الإنسان مع بيئته وبني جنسه، ومكنته من تطوير النظم الاجتماعية والسياسية والإنتاجية المتطورة من حقبة إلى التي تليها. وعليه، فالقيم هي غايات النظم التربوية التي إن تحققت أصبحت الحارس الأمين على مسار الفرد والمجتمع نحو الحياة الفضلى. ولا يختلف الناس على ضرورة تجويد التعليم ليشمل بناء المهارات وتعليم التفكير والابتكار، ولكنهم يختلفون حتماً إن شعروا – أو توهموا – أن القيم الجامعة قد تهددت بهذا التجويد (التغيير).

من هنا، لا يجدر بالتربويين – والأنظار تتجه إليهم – الوقوف عند تشخيص المرض التربوي، لا بل عليهم وصف الدواء وتجنيد أنفسهم لإنتاجه بكل ما يلزم من تواصل إيجابي فاعل مع كل من وما يتصل بمجال القيم باعتبار أن ادعاء الدفاع عنها هو ما يعيق جهود الإصلاح أو يشكك بها أو يمنع ولادتها. فنحن نحتاج نهضة وليس إصلاحاً والفرق بينهما كبير. ولعل فشل جهود الإصلاح السابقة يدفع إلى تفكيرنا بنهضة شاملة نتجاوز فيها الاستقطاب الحاد الذي أفضى إلى ثنائيات قاتلة تشل الابتكار والتفكير الجمعي والتأسيس لنهضة تعليمية شاملة تتناغم أجزاؤها وروافعها الاجتماعية. وفي ظني – وأنا المتعلم أن أبرز الممارسات التي تؤسس

لتلك النهضة ما يلي:

اعتبار الحديث عن النهضة ومتابعة تحققها أمراً مستمراً متدرجاً يتناول التخطيط لها، ويستمر ليتناول تطبيقها وما يعترضه من إرهاصات، ثم تقويمها ومكتسباتها، فمقترحات التحسين اللاحقة، ويأتي هذا في مقابل الاستنفار الحدثي حين يكون الحديث عن الإصلاح متزامناً مع – أو تبعاً لدعوة الخارج للإصلاح، ما حدث في أكثر من دولة عربية عندما دعا جون كيري إلى مكافحة الإرهاب من خلال المدرسة، أو ما قد تتم الدعوة إليه مستقبلاً من اهتمام بالتعليم التقني وتطوير مهارات سوق العمل عندما يحين موعد إطلاق المصانع والمؤسسات التابعة لمشاريع السلام بين إسرائيل والدول العربية، وما تتطلبه تلك المشاريع من أيد عاملة رخيصة الكلفة قد يجري تدريبها في المشاريع ذاتها، بعد أن يجري تدريبها على تقبل الآخر وفق تعريفات محددة وفي مؤسسات مؤهلة لتنفيذ ذلك.

اعتماد الحوار المجتمعي بين مفكرين من مشارب مختلفة سواء تلك الصادرة عن التراث أو تلك الواردة من الحضارة الحالية، ولا يليق باي من هذه المشارب استثمار السلطة لفرض رأيها، كما لا يليق بها اتهام الطرف الآخر أو تخوينه. فالتربوي الحاذق يشعل جذوة الحوار من خلال زوايا مشتركة قريبة كي ينتج شغلاً في تحريك الآخرين معه صوب الهدف، ولا يتعامد معهم مطلقاً ما يجعل ناتج شغله صفراً أو يتعاكس معهم فيدفع بهم إلى اختزان طاقة قد لا يؤمن مآل تصريفها لاحقا؛ فالفئات المخالفة هي أحوج إلى النهضة من غيرها، بل يجب أن تكون محل النهضة وأدواتها في الآن ذاته، وهذا أنفع لجميعنا من استنزاف وقتنا وجهدنا وطاقتنا في اتهامات متبادلة بين داعشية غابرة أو داعشية حداثية تنويرية (على حد تعبير بعض النخبة ولا أتفق مع كلا الطرفين حول الاسم)، فكلتاهما – الداعشيتين لا تشكل مدخلاً للنهضة المنشودة.

إطلاق الحوار حول مسلمات استقرت في بنيتنا المعرفية والسيكولوجية، تشكلت عبر قرون وصبغت مجتمعاتنا أفراداً وجماعات، أو وردت من منظمات مجتمع مدني ومناهج حديثة، حيث عززت الأولى شعوراً زائفاً بالأفضلية بحكم تاريخ مشرق – في جوانب عديدة – أو دين سماوي خاتم، في حين عززت الثانية مطلقات خاطئة في تقبل الآخر، واعتماد الحوار فقط دون تعزيز وسائل القوة، وعدم تحديد مجالات التفاعل من تحالف أو تفاعل إيجابي أو صدام. ومن هذه المسلمات:

أننا الأفضل ونملك الحقيقة ومستغنون بما لدينا عن أي أفكار ونظريات ومقاربات وتجارب جديدة تأتي من شعوب وأقوام لا يدينون بديننا. وأنتج ذلك الولاء لفكرة المسلم والبراء من غيرها حتى ضاعت قيمة الأخلاق التي أُرسل النبي عليه الصلاة والسلام لإتمامها، وحتى غابت تماماً معايير الحكم على الأشخاص بمقدار قربهم أو بعدهم عن تحقيق منظومة القيم الإنسانية الجامعة في تصرفاتهم وممارساتهم وإنتاجهم المادي أو الفكري.

أن كل المعارف متضمنة في ديننا وتراثنا وهي كافية بحد ذاتها، فكما عملت على تمكين أسلافنا من قيادة العالم يوماً ما فإنها مؤهلة اليوم لتمكيننا من إعادة الصدارة للأمة؛ وأسهم هذا في خلط مذهل بين الديني والفلسفي والعلمي والجمالي حتى تعطّل العقل، وساعد في تعزيز ذلك نزعة بعض الحداثيين إلى إخضاع كل مجالات الحياة إلى المنهج العلمي والتفكير العلمي رغم عدم أهليتهما لبعض المجالات فتخندق كل منهما في إطار تفكيره منغلقاً معزولاً.

فلا غرو أن تسمع أحدهم منشداً:

كُلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ….. إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدينِ

العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ حَدَّثَنا….. وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ

ولا عجب أن تقرأ لإحداهن: “إننا بحاجة إلى خريجين يكافحون من أجل حقوق الانسان والديمقراطية والمواطنة، لا خريجين يقاتلون بالسلاح“.

فذاك انتقص العلم بالطبيعة والنفس والمجتمع، وهذه انتقصت حق المجتمعات في التوازن بين الأخلاق وبناء القوة اللازمة للمحافظة على الحقوق والأخلاق، ويستمر الاستقطاب بين رذيلتين تشكلان طرفين متناقضين لفضيلة التوازن الدقيق.

ترسخت في العقل العربي ذهنية الاستهداف من الآخر فأسرف في بناء القلاع للوقاية منه والتعبئة ضده، واستثمر الدين في ذلك إلى أبعد الحدود ليواجه ما استثمره في التعبئة عندما بدأت الدعوة إلى الانفتاح وتقبل الآخر. وعلى الرغم من أن قلاعنا أصبحت آثاراً تدر لنا الدخل على الصعيد السياحي إلا أنها لا زالت قائمة في أذهاننا، تطل علينا بسياسات حجب المعلومات، ودعوات السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وسيادة منظومة من الأمثال تدعو للنكوص والجبن والخنوع والبلامنوية (بلا منه). نعم. أمثلتنا جبانة. ” خلك على قردك ليجيك أقرد منه، الوجه اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفه، حط راسك بين الروس وقول: يا قطاع الروس، أمشي الحيط الحيط وقول: يا الله الستيرة، وغيرها وعلى شاكلتها كثير. عجز واستكانة واستقرار حتى أسن ماؤنا ونمت عليه الفطريات من كل نوع. فازددنا انغلاقاً وحرمنا أنفسنا من التفاعل الحضاري المنتج.

تشكل المقاربات البحثية للنخبة – في مناسبات حاسمة ومفصلية – أس المشكلات والشروخ الطولية والعرضية في المجتمعات العربية تجاه عمليات التطوير التربوي؛ إذ جاءت الدراسات العربية الناقدة للمناهج على شاكلة أبحاث المؤسسات التي ترصد العداء للسامية في الغرب، أو دراسات المؤسسات التي تعنى بالنسوية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان؛ فركزت على الأمثلة التي تؤيد وجود المخالفات، وتماهى الرد عليها معها من خلال بيان ما تم حذفه من آيات أو عناوين معارك وغزوات، أو ما تم حذفه من شخصيات وبطولات. من هنا، استقر في الأذهان أن عملية التطوير برمتها ما هي إلا استجابة إلى أجندات خارجية وضغوط منظمات وما إلى ذلك، ما أفقد التطوير زخمه، لا بل طور اتجاهات سلبية ضده وضد منتجاته. لم تستثمر في تلك الدراسات أية نتائج خاصة بفعالية نظامنا الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، لم توظف منحنيات البطالة المتصاعدة، أو منحنيات الفقر، أو توزيع الدخل، أو الفجوة الرقمية، أو فقر المهارات بالنسبة لسوق العمل، أو الوظائف المستقبلية، أو اتجاهات النمو في التقنية وغيرها مما هو اجتماعي معيشي ويومي. فكان طبيعياً أن ينظر المجتمع إلى التطوير – ما دامت مبرراته هي ما تتحدث عنه دراسات النخبة – باعتباره ترفاً لا مسوغ له خصوصاً أن أي تطوير تربوي سابق ادعى – بشكل أو بآخر – تنمية التفكير وتمكين الطلبة من أدواته. وعليه، يجب تجاوز هذه المسلمة في ممارساتنا لنشكل مركز اليقظة التربوية الساهر دوماً على تعليمنا، الناشط في حوار مجتمعي مستمر بدلاً من الاستجابة فقط عند دعوة الغرب لها أو بعد أن يشير أولو الأمر إلى ذلك.

كما تسود في مجتمعنا عقلية الانسحاب من الفعل الحضاري باعتبار العمل الصالح هو العمل الديني فقط، ولا أدل على ذلك من كثرة المساجد التي يجري التبرع ببنائها من قبل المحسنين أو ورثة الميسورين؛ ألم ير هؤلاء بعد أن بناء مركز لتعليم التفكير، أو مركز لدراسات المرأة، أو تخصيص موازنة لتطبيق رقمي لتعليم الأطفال لغة معينة، أو دعم شبكة بحثية لتطوير تدريس اللغة العربية في مرحلة معينة هي جميعها من فئة العمل الصالح؟ لا أظن ذلك، ولا أظن أن عقلية العمل الصالح قد تجاوزت إطارها الصوفي الغائر في تاريخنا والفاعل في عقلنا انسحاباً من الفعل الإيجابي الاجتماعي والحضاري. ولتجاوز هذه المسلمة لا بد من الحوار مع الجميع حول مفهوم العمل الصالح وإعادة مناقشة الوظائف النبوية الواردة في القرآن حيث أسست – في ظني – لكافة جوانب الفعل الحضاري الإيجابي.

بل زاد الطين بلة ما تسلل إلى أذهاننا من قداسة زائفة للمفاهيم والتأويلات وأصحابها وقائليها؛ فمن أين تسرّبت لنا قداسة العلماء؟ لحوم العلماء مسمومة، وكيف ومتى توسعت القداسة من نصوص الدين لتشمل تأويلات المفسرين والعلماء لتلك النصوص؟ وكيف انسحبت الأسئلة من مجالها الفلسفي والعلمي لتكون تحت الديني حتى تكاثر العاملون في الإعجاز العلمي تكاثر المنجمين يتزاحمون على الفضائيات كلما حقق الآخر كشفاً علمياً يصنع الفرق في معارفنا وفهمنا بل وحياتنا؟ لا أقلل هنا من مساحات الالتقاء بين الدين والعلم، ولكنني أشخص ما يترتب على هذه الممارسات من مفاهيم مخطوءة وخاطئة في الآن ذاته يجري نقلها إلى الناشئة، في ظل عجز نخبة الإعجاز العلمي عن تحديد العلاقة الدقيقة بين الدين والعلم، أو اجتراح مسارات استنباط جديدة في ظل بروز المنطق الضبابي (Fuzzy Logic) الذي بدا يزاحم المنطق الذي عرفته البشرية منذ أرسطو حتى عام 1947 م.

كما يسود الاعتقاد بأن المناهج والمدرسة كفيلان بإحداث التغيير، وفي هذا مغالاة في تصور الأثر مع إغفال كبير للدينامية الاجتماعية وأدواتها من إعلام وما يبثه من محتوى، ومن ممارسات اجتماعية تكرّس الطبقية القبلية أو النخبوية أو توريث المناصب أو الشللية، وممارسات الحوار المجتمعي وما ينمو على ضفافه من إقصاء وتهميش وتكميم الأفواه وقمع المعارضين فكراً وممارسة. فمن الممكن تحويل كل تلك الديناميات إلى فرص ونماذج تعلم تسند المدرسة في دورها.

وتندر الدراسات – وهذا دور النخبة التنويرية التربوية – التي تتناول مستقبليات التربية والتطور الاجتماعي وأثرها على مستقبل أبنائنا، ومسارات التحضير لمواجهة تحدياتها واستثمار الفرص الضخمة التي تتفتق عنها، أقول هذا وقد تجاوز سعر المتر الواحد للأرض الافتراضية في تقنية الميتافيرس أربعة آلاف دولار تقريباً، وبدأ الاستثمار في إنشاء متاحف التاريخ الطبيعي، ومسارح أشهر الفنانين، ومحطات الفضاء، وهي جميعها مجالات قادمة لا أظن لدينا التهيؤ لها ناهيك عن السبق فيها. فاين هي الخطط التي وضعناها لتمكين أبنائنا من ولوج هذا العالم؟ وهل تكفل تلك الخطط – إن وجدت – تقليص الفجوة الرقمية بين أبنائنا ونظرائهم في العالم؟

لست متشائماً، ولكني أميل للاعتقاد بأن عملية النهضة هي الكفيلة بتغيير المفاهيم والتصورات وإعادة فحص المسلمات بما تقينا من إعادة إنتاج الفشل في حال استخدمنا استراتيجيات ووسائل ومناهج حديثة ولكن بنفس التصورات الحالية، فكل هذه – على أهميتها – تتأثر بتصوراتنا عن الأشياء والأهداف وعن أنفسنا وغيرنا الآخر ومقاربات التفاعل المتمايز معه وفق أولويات مجتمعنا ومشكلاته وتحدياته.

إقرأ المزيد لمقالات التربويون العرب

You May Also Like