إدارة التغيير: منظور جديد
بقلم الدكتور محمود المساد
تبرز أهمية مضامين مفهوم إدارة التغيير بشكل شمولي أكبر من خلال السياقات التي ترتبط بمعناه الإجرائي، ففي الوقت الذي تعني إدارة التغيير إجرائياً إدارة عمليات متعددة متسلسلة تنتهي بإحداث التغيير المطلوب، بمعنى أن إدارة التغيير ترتبط بشكل رئيس بمن يدير التغيير من المديرين ونوابهم ووكلائهم ومساعديهم ومن يُتفق عليه أنه من فريق الإدارة الذي أوكلت لهم مهمة إدارة التغيير، كما ترتبط بمنهجية العمل التغييري ومراحله ابتداءً من تحديد الرؤية المتصلة به والوقوف على واقع المؤسسة ساحة انطلاق لعمليات التغيير وانتهاءً إلى إحداثه على أرض المؤسسة بغض النظر عن مستوى تحقيقه.
إن السياقات المتصلة بهذا المفهوم اليوم ذات عمق ثقافي يتأصل بتوجيه قوي من مضامين سياسية كشفت عن الحاجة الماسة للتغيير، كما هي بتوجيه من قوى ضغط شديدة اقتصادية واجتماعية وثقافية. فالحالة الراهنة تشهد موجة تغيير عامة شاملة قوية. وهنا لابد من الوقفة التقييمية والإجابة على العديد من التساؤلات.
فهل التغيير مطلب عالمي، وفي أي اتجاه؟. وهل هذا التغيير بمكوناته المطلوبة يؤثر على المؤسسات ويستدعي حاجتها إلى التغيير، وفي أي اتجاه؟. وهل الأمر يتطلب من القيادة الحِرفية قراءة المستقبل وتوجهات التغيير العالمية والمحلية، أم يتطلب من القيادة الحاجة إلى الحِرفية في استيعاب مضامين التغيير والعمل على إحداثها لتأمين سلامة المؤسسات وتحقيق أهداف المؤسسة وأهداف التغيير في آن معاً بمستويات متفوقة؟.
وهنا لابد من التأمل العميق في المشهد العالمي من جهة وموقع المؤسسة وتأثرها بالمشهد وتأثيرها عليه من جهة أخرى. وخاصة وأن التحديات العالمية متنوعة، فمنها ما فرضته طبيعة التطور والتحديث مثل: تحدي المعرفة والتكنولوجيا، وتحدي طبيعة الاتصال الإيجابي المفتوح عبر هياكل تنظيمية تُشجِّع العمل القيادي التعاوني القائم على المهمات والمشروعات، وتحدي التفوق في قدرات العاملين ذات التخصصية الدقيقة والمهارات التقنية والتواصلية النوعية، والمرونة والانفتاح ذات الأبعاد الإقليمية والعالمية، ومنها أي التحديات ما فرضته الهزات القوية المفاجئة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي وما أثّر كل منهما على المؤسسات بتغيير إجباري أقرب إلى الراديكالية.
وفي مثل هذا المشهد معقد التشابكات لابد وأن ننظر إلى مفهوم التغيير من منظور جديد شامل يؤسس إلى تَخصُصية واحتراف في إدارة التغيير ووضع كل الحسابات وتقدير جميع المتغيرات قبل الشروع في عملية التغيير. بمعنى أن نقف على مضمون التغيير ومدى تحقيقه لأهداف المؤسسة ورؤيتها وأهدافها الإستراتيجية في إطار المشهد المعقد المحلي والدولي. لهذا كله فإن المؤسسات كونها أنظمة فرعية من نُظم أكبر تجاوزت حدود الجغرافيا والأيدولوجيا إلى تشابكات المصالح والعوائد، إلا وتتأثر بمحيطها القريب والبعيد لتضمن لنفسها الحياة والتطور. وهذا الحديث يصيب بحق المؤسسات الكبيرة عابرة الحدود والمؤسسات الصغيرة المحلية مع تفاوت شدة التأثر، الأمر الذي استوجب من المؤسسات بداية الإيمان بحتمية التغيير ولزوم فهمه وفهم توجهاته وقراءة مضامينه من حيث ما يفيد المؤسسة وما يضرها منه، ما علينا الأخذ به من هذه المضامين وما علينا التحوط له والتعامل معه على أنه تهديد يؤثر على المؤسسة ويصيبها بالإخفاق والتراجع.
ومع أن التغيير عادة ما يكون فعالاً أكثر عندما تقوده مؤسسات التعليم والتنوير باعتبارها تتعامل مع الجيل منذ نعومة أظفاره فتغرس في عقله ووجدانه الأطر والهياكل الفكرية المتقبلة للتغيير، إلا أن التغيير في هذه المرحلة جاء عالمياً ومن نافذة السياسة والسياسيين وهي النافذة والجهة الأقرب للمحافظة والتمسك بما يُبقي الجيل عموماً بعيداً عن رياح التغيير ومترتباته التي تضر بهم وبمصالحهم. وهنا لابد من الإشارة إلى أن المؤسسات التربوية والتعليمية بشكل خاص والمؤسسات العامة بشكل عام عليها المبادرة والتكيف مع التغيير بعد فهمه ووعيه بعمق ووضع الخطط لتنفيذه وفق المنهج الأسلم لذلك.
ولمّا كانت عملية التغيير حتمية طال الوقت أم قصر، فإن البراعة والذكاء في عملية تأمين المؤسسة بالكفاءات النوعية تصبح الملجأ الآمن لنجاح المؤسسة وضمان تحقيقها لأهدافها.
ونقصد بالبراعة والذكاء قدرة المؤسسة على اختيار قياداتها المؤهلة لمتطلبات هذه المرحلة ومتابعة ممارستهم لأدوارهم عملياً كونها تجربة كافية للحكم عليهم، وتتلخص هذه المتطلبات والممارسات لقيادات المؤسسة بما يلي:
القدرات العالية على قراءة المستقبل وفهم خريطة التحديات الداخلية في المؤسسة والخارجية في محيط المؤسسة محلياً ودولياً. وهذه القدرات تتجاوز التأهيل العالي والخبرة الناضجة والانفتاح والمرونة العقلية والتواصل الإيجابي، إلى التمتع الحقيقي العملي بمهارات لغوية وتقنية تدعم هذه القيادة في التأثير على الآخرين وترسيخ ثقتهم بالقيادة، وأنها ستقودهم إلى إنجازات متفوقة مطلوبة لنجاح المؤسسة وضمان تطويرها. ورغم أهمية هذه المؤهلات والشروط والخصائص لقيادة المؤسسة وأنها الأساس في نجاح المؤسسة إلا أنها ليست كل ما تتطلبه عملية النجاح من ضمانات لإنجاز أهدافها بالشكل المطلوب.
وهذا يتضح بعد القراءة الواعية لجميع البنود الواردة تحت هذا العنوان.
– توظيف عمليات التخطيط الإستراتيجي والتنفيذي في ظل إدارة إستراتيجية شاملة، وهذا يؤكد لزوم ممارسة القيادة التغييرية التي تتمتع بكل المؤهلات والشروط والخصائص المطلوبة لنجاح المؤسسة لعمليات التخطيط على اختلاف مستوياتها بحِرفية عالية قبل الشروع في التنفيذ الميداني. وهنا تضع القيادة نفسها على الطريق الصحيح في العمل المؤسسي الذي يبدأ بنسج التصور المستقبلي لمِا سيكون عليه العمل من جانب، وضمان تفهم العاملين لتوجهات العمل ومضامينه وأخطاره وعوائده وكيفيات تنفيذه وأدوارهم به من جانب آخر.
– التحلي بالصبر والإصرار والشفافية والعمل المشترك والحضور الدائم في المؤسسة، وهذه ليست خصائص نظرية تتحدث بها القيادة عن نفسها، بل هي خصائص يلمسها العاملون في أثناء العمل، أو ربما يتأكد العاملون منها في أثناء العمل. وهذه السمات تلتقي بشكل أو بآخر مع سمات القادة الذين لابد وأن يتمتعوا بالصبر لإيصال رسالتهم للآخرين والإعادة والتكرار بأشكال مختلفة ليفهم الآخرون أن هذه الرسالة هي كما فهموها، كما يتأكدون بعد فهمها بالشكل المطلوب أن القيادة مُصرة عليها وعلى تنفيذها بالشكل المحدد لها من جانب، وأنها كما شُرحت واضحة صريحة لا تحمل أكثر من بدائل نظر، أو ليس لها جوانب مخفية يُخشى كشفها.
– وهنا ينبغي على القيادة العمل مع العاملين في المواقع المختلفة والتواجد بينهم والإجابة عن كل استفساراتهم بوضوح واتساق من موقف إلى آخر. وفي هذا الصدد من المهم النظر إلى هذه السمات رزمةً واحدةً يَحسُ بها العاملون، بحيث تكون ردة فعلهم عليها أن هذه القيادة تعرف ما تريد، وتعرف وترى إلى أين تذهب، فضلاً عن أنها صادقة وقريبة من كل فرد في الوقت الذي يحتاجها به.
– خبرة عملية في الأداء تثير الإعجاب، وهنا نتحدث عن بعد العمليات في أثناء التنفيذ. وفي الوقت الذي لا نقصد به أداء القيادات للعمل بأنفسهم، فإننا نقصد دعم الخبير العارف للتفاصيل. ويتم اكتشاف العاملين لمستوى هذه الخبرات منذ بداية التعامل المباشر معهم، لهذا فالقيادة سواء تمثلت بشخص القائد أو بمن يمثله من المستشارين والمتخصصين عليهم أن يكونوا قادرين على تنفيذ العمل بحرفية عالية، أو تقديم الدعم الفني اللازم للأداء الأميز بشكل محترف، أو اعترافهم بطلب الحاجة للتدريب لتحسين مستوى أدائهم للدرجة المطلوبة منهم.
– وفي كل هذا يُقصد انتزاع الاعتراف من العاملين طوعاً بقدرات القيادة الميدانية العملي تمهيداً للوصول إلى الثقة والموثوقية بالقيادة اللتين هما أحد أبرز أسباب النجاح لقيادة التغيير في المؤسسة.
– مهارات فوق معرفية (meta cognition skills) موجهة للتحكم والسيطرة في قيادة العمل وإدارته. وهنا نتحدث عن مهارات عليا للتفكير المتقدم في عمليات التفكير المتعددة متدرجة المستويات من خلال التأمل والتقييم الذاتي، وهنا يفترض بقيادة التغيير أن تُركّز اهتمامها على كامل المؤسسة، وعبر مراحل العمل على طول الطريق نحو تحقيق الرؤية، من خلال الخطة الإستراتيجية ذات الأبعاد الإجرائية في برامجها ومشروعاتها ومبادراتها. وفي هذا الصدد وإذا ما تم لقيادة التغيير ذلك فإنها تصبح قادرة على السيطرة والتحكم بكل الأوراق والخيوط بنفس التوجه والمنطلقات، الأمر الذي يحقق لها الاتساق والتناغم ويعزز ثقة العاملين بالقيادة.
– المتابعة المرحلية والتغذية الراجعة. ومع أن هذا البند لا يؤخذ بالعادة على محمل الجد، إلا أنه في مجال قيادة التغيير مهم جداً ، وتنبع أهميته من تحقيق هذا البند لبنود كثيرة أخرى سبق ذكرها، وبنود كثيرة أخرى لم يسبق ذكرها. وتظهر هذه الأهمية من وقوف القيادة على تفاصيل العمل أولاً بأول وكيف يسير العمل في ظل مؤشرات الخطة التنفيذية، وفي أي اتجاه، مع أخذ الفرص المتكررة للإجابة عن الاستفسارات وجهاً لوجه، وهنا تتجلى الأهمية بترسيخ إحساس العاملين بحضور القيادة ووجودها بينهم، وبالشفافية العالية في الإجابات عن الأسئلة، وإجهاض أية إشاعات حول مضمون التغيير وهي في مهدها.
إن إدارة التغيير وفق هذه التوجهات التي سبق شرحها في البنود الستة السابقة تضعنا أمام تساؤلات جديدة تقود إلى ضرورة توضيح العلاقات بين إدارة التغيير أفراداً، ومدى قربهم أو بعدهم عن كونهم قادة، وقادة للتغيير. وبالوقت نفسه العلاقة بين مضمون التغيير والعمليات التي تمت لإحداثه، وتسمية محدثي التغيير بقادة التغيير. وحتى لو لم ينجحوا بإحداث التغيير هم قادة حاولوا ولم ينجحوا، وربما بالمراجعة والتقييم الوقوف على الثغرات ومواطن القصور، وإعادة البرمجة وتحسين الأداء أن ينجحوا ويكونوا قادة متميزين. وليس هذا فقط بل لابد من الوقوف على العلاقات الارتباطية التي تنتهي إلى تسمية قادة التغيير بالمبدعين، باعتبار أن القائد وما توصل إليه من نجاحات على مستوى المؤسسة هو مبدع وتوصل إلى نِتاج إبداعي.
وفي هذا السياق نلمس بأن رأس كل مثلث تربع عليه شخص كان في المثلث الأول (مبدعاً) وكان في الثاني (قائداً) وكان في الثالث (مُغيراً)، واحتلت الزوايا اليمنى لكل مثلث منها العمليات التي يؤديها أو يوجه لتأديتها القائد أو المبدع أو المغير تحت مسمى (أداء)، كما احتلت الزوايا اليسرى لكل مثلث منها النتاجات والإنجازات النهائية. وهنا ننظر إلى رأس كل مثلث ونجد أن خصائص القادة ومحدثي التغيير والمبدعين متقاربة، بل هناك بينها مجموعة من السمات والخصائص المشتركة، كما بينها مجموعة من السمات والخصائص المميزة تضاف لكل منهم على حدة.ولكن الأهم بأن نطلق مفهوم إدارة التغيير على مراحل العمل والمنهجيات والآليات التنفيذية وأن تُفرد للأفراد الذين يقودون هذا التغيير مسميات صريحة وواضحة تلتقي جميعها عند مسمى (قائد) وأن تكون في رأس قائمة السمات التي تميزه أنه مغير ومبدع. وأيضاً لابد وأن تترافق مع هذه السمات أنه محترف في أداء العمليات باعتبار أن العمليات لمثل هؤلاء الأشخاص لابد وأن تكون محترفة، وأن تقود إلى نتاجات متفوقة تتصف بالمبدعة والإيجابية والناجحة والفعالة… وكل مثل هذه الأوصاف التي تشير بوضوح إلى التميز.
إن ما يميز هذا المقال أنه يربط بقوة بين عمليات ثلاث تتحدث عن عملية القيادة، وعملية التغيير، وعملية الإبداع، وأن بينها جميعاً جذعاً مشتركاً يستحق أن يحمل الخصائص المميزة لكل منها (قائد ومغيِّر ومبدع)، ومحاولة توظيف هذا الربط وتوصيفه حيث .
وتأسيساً على ذلك تأتي عملية التركيز على منهجية العمل القيادي التي تميز قيادة التغيير كما تميز المبدعين الذين يقودون مؤسساتهم نحو التميز وتحقيق النتاجات المتفوقة. وبالوقت نفسه يُجنِّبون مؤسساتهم الوقوع في مزالق خطرة أو يبعدونها من أن تصبح من المؤسسات الخاسرة والمتراجعة.
لذلك سيتم تناول بعض المفاصل المهمة في منهجية العمل القيادي وبما يخدم هذه التوطئة على النحو التالي:
– إن أرضية اللوحة التي تشرح مخطط منهجية العمل القيادي عبارة عن كثيب من الرمل يصعب الوقوف عليه أو معرفة أسراره، أين تجده قوياً متماسكاً وأين تجده ضعيفاً تغور به الأقدام. لذلك يحتاج الأمر إلى الحذر المطلوب والدراسة المتأنية الواعية، واكتشاف ما يظهر بوضوح وأيضاً ما لم يظهر ويحتاج لدراسة وقراءة ما خلف السطور وما تغلفه الأقنعة وتجمِّله المساحيق. وهنا وأمام هذه اللوحة تجدر الإشارة إلى أبرز سمات القائد/ القيادة في القدرة على التنبؤ والاستشراف والتحليل وربط العلاقات واكتشاف المتغيرات القائمة في إطار بيئة المؤسسة الداخلية والخارجية أو المتغيرات التي تُطل برأسها أو لم تظهر بعد.
– تبدأ اللوحة من اليمين بساحة الانطلاق مع الإشارة إلى أحد أهم أنظمة التحليل العالمية (Swot Analysis)، والذي يتيح للقيادة الوقوف على نقاط القوة ونقاط الضعف في المؤسسة ويكشف عن أية تهديدات داخلية أو خارجية للمؤسسة وأهدافها، وكما يكشف عن أية فرص على المؤسسة أن تغتنمها. وهذا بداية يحتاج إلى قدرات متفوقة من القائد/ القيادة في توظيف حقيقي لهذا النظام/ الأنظمة، وقدرات متفوقة أيضاً لقراءة هذه المعطيات واكتشاف هذا الواقع الذي سيُشكّل الأرضية لانطلاق التخطيط السليم والتنفيذ الواعي لمضمون التغيير عبر المراحل والخطوات التي سنتحدث عنها لاحقاً.
– وضع الخطة الإستراتيجية لتنفيذ التغيير عبر مراحل مناسبة محددة الأهداف والإستراتيجيات والزمن، بحيث تنتهي هذه المراحل في سنوات الخطة لتحقيق الرؤية. وأمام هذه العمليات المعنونة بمراحل عمل الخطة الكبرى، والإستراتيجيات المحددة لأفضل تنفيذ لها عبر عمليات متفوقة الأداء، فإننا نجد الفرصة سانحة لتُثبت القيادة نفسها وتجتهد لكسب ثقة العاملين من جهة، والمتعاملين مع المؤسسة من جهة أخرى. وهنا نؤكد على أبرز سمات القيادة التي عليها أن تكشف عنها أو أنها تمتلكها باقتدار وتكسب الفوز بتحقيق الأهداف من خلالها، وهي كما يلي:
– التركيز والاهتمام مع حشد الدافع الذاتي القوي المتجدد على طول رحلة التنفيذ، وإعادة ترتيب الأولويات بعد نهاية كل مرحلة، وفي ضوء التغذية الراجعة ممن يعملون داخل المؤسسة من جهة، ومع من يتعاملون مع نتاجات المؤسسة وخدماتها من جهة أخرى.
– العمل بالمراحل وفي إطار القول (لا تخشى أن تخطو خطوات كبيرة، لأنك لا تستطيع أن تجتاز هوة في خطوتين صغيرتين)، وذلك باعتبار أن القيادة تحتاج إلى النظرة العامة والخطوط العريضة بالوقت نفسه الذي تحتاج به إلى وعي التفاصيل ودعم التفاصيل. وهذا من السهل كشفه من قبل العاملين والحكم من خلاله على قدرات القيادة ومستواها ودرجة وعيها لِما تعمل وتتصرف.
– لا يحدث الإخفاق إلا بالتوقف عن المحاولة، ولا تقع الهزيمة إلا من داخلنا. وفي هذا السياق تبرز قضيتان أولاهما: الإصرار على متابعة المشوار وكأنك قائد/ قيادة ترى المستقبل وتؤمن بما ترى وتقرأ حيثياته وصحة الطريق الموصلة إليه وسلامة الإستراتيجيات والإجراءات المتخذة،وأخراهما: الإيمان الداخلي الذي يظهر على الجوارح ويصل إلى المستهدفين سلوكاً حقيقياً ومعرفة راسخة بأن مضامين التغيير أكيدة ومناسبة والخطة المرسومة لإحداثها دقيقة ومناسبة لتحقيق الأهداف.
– وأخيراً نستخلص القول المأثور بأن العمل بدون رؤية شقاء وهزيمة للمؤسسة وللقيادة، وأن الرؤية بدون عمل حُلم وتمنيات تكشف عجز القيادة وتقود إلى خسارة المؤسسة، وأن العمل المصحوب بالرؤية يدل على الوعي والاستشراف والجدية والإنجاز والتميز وهذا هو المطلوب والذي نعمل ونكتب ونسعى لتوضيحه وتحقيقه.
وتأسيساً على ما سبق وعوداً إلى الصفحة الأولى في هذه التوطئة وبالذات إلى التساؤلات نجد أننا أجبنا عنها جميعاً من خلال العرض السابق، ولكن هل هذه الإجابات كانت كاملة ومباشرة أم انتشرت في السياق وتحتاج من القارئ الوعي والتدقيق والاستنتاج. وهنا أجد نفسي بين التصريح والتلميح وبين الإجابة المباشرة والتوجيه الواعي للقارئ بالاجتهاد لاستنباط الإجابات. ولكن هناك حقيقة قصورٌ واضحٌ في إبراز بعض الصور التي تستحق تسليط الضوء عليها لتجعل من عمل القيادة التغييرية عملاً فعالاً وناجحاً،
ومنها ما يلي:
– تنمية الجانب الاجتماعي للقيادة. ومع أن هذه أحد أهم خصائص القائد في العمل مع الآخرين والتفاعل معهم والتقدم من خلالهم في توظيف فاعل لجميع أشكال الاتصال الرسمية وغير الرسمية على طريق تفهم العاملين وتلبية متطلباتهم والتجاوب مع مصالحهم وربطها لتتسق مع مصالح المؤسسة. إلا أنها تتضافر وتتكامل مع الانفتاح والتفاعل مع محيط المؤسسة الخارجي. وبهذا تصبح العمليات الاجتماعية عمليات منظمة تتجه من الخارج إلى الداخل ومن العلاقات الرسمية إلى غير الرسمية ومن التواصل والإطار الأبعد إلى الإطار القريب المفعم بالمودة.
ويعمل القائد مجتهداً على استقطاب العاملين إلى الحلقة الشخصية، وهذه الحلقة التي على القائد أن يصل في النهاية وأن جميع العاملين معه يحسون بأنهم يقعون بها. ومن ثم الحلقة الاجتماعية التي على المؤسسة أن تعيشها وتحس بها مٌناخاً أسرياً من جانب، وأن يحس بها كل متعامل معها وأنه عضو في هذه الأسرة وينتمي لها. وأخيراً الحلقة العامة التي يعمل القائد والقيادة عموماً على الاستقطاب منها باتجاه الحلقة الشخصية أو الاجتماعية على الأقل.
وبالنظر إلى المؤسسة نظاماً يتفاعل ويتكامل مع الأنظمة الأخرى المرتبطة معه بشكل أو بآخر فإننا نجد النجاح والإخفاق مرتبطان بالانفتاح والانغلاق في أشكال التواصل وخاصة الجانب الاجتماعي. حيث تعمل القيادة على ترسيخ العمل بمضمون النظام المفتوح (open system) الذي يتفاعل مع محيط المؤسسة فيؤثر فيه ويتأثر به بهدف استمرار حياة المؤسسة وضمان تطورها، بغض النظر عن هذا المحيط قريباً كان أم بعيداً. وهذا ما يُظهر تميز القيادة في إحساس جميع المتعاملين مع المؤسسة أفراداً أو جماعات ومؤسسات بأنهم ينتمون لهذه المؤسسة ويرتبطون بها ويحققون بطريقة واعية أو غير واعية أهداف المؤسسة. أن المؤسسة نظاماً فرعياً مرتبط بأنظمة فرعية أخرى في محيط المؤسسة ومجالها الخارجي، فهناك أنظمة فرعية أخرى داخل المؤسسة ترتبط فيما بينها أيضاً بشبكة من العلاقات تفاعلية ومتكاملة. وفي هذا الصدد نؤكد بأنه لابد للقيادة الفاعلة أن ترتقي بالجانب الاجتماعي داخل المؤسسة وشبكة التواصل فيها لتكون مفتوحة ومستمرة وإيجابية تسودها كونها مؤسسة المحبة ويكتنفها المُناخ التنظيمي المريح، وبالوقت نفسه تنفتح على المؤسسات الأخرى وتتفاعل معها وترتبط بها بشبكة علاقات ودية اجتماعية رسمية وغير رسمية، الأمر الذي معه تتحقق أهداف المؤسسة بأقصر الطرق وأسهلها.
– العمل على رفع نسبة القلق أمام المهام والأعمال حتى يتحقق لها النجاح دون الوصول إلى القلق الشديد والتوتر من جهة، وإلى البرود وغير المبالاة من جهة أخرى. أن مستوى النجاح والفعَالية يكون في أضعف حالاته عند طرفي المنحنى في مستوى البرود ومستوى التوتر العالي، وفي الحالتين لا يعمل الدماغ بشكل مناسب، بل قد لا يعمل بشكل سليم. لهذا فالمطلوب من القيادة التغييرية أن ترفع من قلق العاملي ن إلى الدرجة المناسبة التي تضمن معها اهتمامهم وفعَاليتهم. وهذا لا يتعارض أبداً مع ارتياحهم ومستوى رضاهم.
أن القائد هو القادر على تقدير الموقف، فلا عيش وارتخاء يصل بالعاملين إلى غير المبالاة والبرود والنوم بالعسل، ولا الضغط والتخويف والتهديد الذي يرفع من قلقهم ويزيد في توترهم فنفقد كل شيء. ومع أن الأمر ليس سهلاً، إلا أن القائد يستطيع ذلك وهذا ما يميزه عن غيره ممن لا يستطيعون ذلك. ولا تنسى أن أي تغيير لابد وأن يعترضه عوائق ومشاعر قلق، ولكن دور القيادة في المحافظة على نقطة الإتزان، وهذا ما سنوضحه في البند التالي.
– السعي الدائم للموالفة والوصول إلى(نقطة الاتزان). وبهذه السمة القيادية والسلوك الحقيقي لترسيخها تبرز هذه القيادات. ومع أنها كونها سمة مؤثرة في نجاح المؤسسة وتستند على النظرية التوافقية لصاحبها فيدلر (Contingency Theory)، إلا أنها تميز بوضوح عملي الشخصية المؤثرة أيضاً للقائد من خلال الحِراك الذي يقوم به ليثبت على ميدان المؤسسة بأنه يسعى لتحقيق حاجات شخصية وإنجاز أهداف تنظيمية في آن معاً من خلال إدارته الحكيمة لهذا الصرح بين المتناقضات والتي من بينها حاجات المؤسسة وحاجات الأفراد، الأمر الذي رُبطت به فاعلية مجموعة العمل وتميز أدائها بأسلوب القائد وتفضيله الموقف. وغالباً ما نشير لعملية الموالفة بالبحث والتدقيق لإيجاد نقطة الاتزان بين متناقضين،
يعمل القائد باجتهاد دائم لإيجاد نقاط الاتزان في أعمال المؤسسة لتستقر بين تناقضاتها المعهودة فتحقق مصلحة المؤسسة ومصالح الأفراد في آن معاً، فلا يقبل القائد أن يستقر الأمر في الفوضى أو في الخمول في أعمال المؤسسة، ولا بالتغيير المفرط الراديكالي السريع المفاجئ ولا ببطء الإجراءات واستقرارها في جميع الظروف والأحوال، ولا في الاستبداد والصرامة المفرطة ولا بالتسيب والإهمال الإداري. وعندما يجد القائد أو القيادة هذه التوازنات في أعمال المؤسسة المتغيرة بحسب الظروف والمواقف تصعد فاعلية القيادة وتتحقق الإنجازات وتتميز القيادة.
إن على إدارة التغيير في أي مؤسسة ومجتمع أن تقف موقف التأمل والمراجعة، فهل كانت البداية صحيحة؟. ولا أقصد بالبداية كما أسلفنا بدراسة الواقع والوقوف على نقاط القوة والضعف لبلورة الرؤية في إطار بُعديّ الفرص والتهديدات، بل أقصد محاكمة الذات واكتشاف الاستعداد الذاتي والثقة بالقدرات أمام المهام المطلوبة والتغيير المطلوب.
إقرأ المزيد لمقالات التربويون العرب