أنا أتعلّم إذن أنا موجود
كتب الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) عبارته الفلسفية المشهورة ” أنا أفكر إذن أنا موجود” في كتابه ( مقال في المنهج)، وبغض النظر عما كان يعنــــــيه ديكارت حينــــئذ أو ما فسّره المهتمـــون بالفلسفة لهذه العبارة فإن التفكير هو مادة التّعلّم وبه يهتدي الفرد إلى معرفة ما يريد في هذا الكون و فك رموزه وطلاسمه فلا تعلّم دون تفكير، وتعددت نظريات التعلّم وأساليبه وتطورت بتطور البشرية وتقارب البيئات الاجتماعية الإنسانية، والتعلّم عملية أساسية في الحياة يتخلل كل نشاط بشري وجوهره يكتسب من خلاله مجمل خبراته الفردية ويواجه من خلاله أخطار البيئة ويتحداها ويسيطر عليها ويسخرها لخدمته، فاهتمت المجتمعات بتربية وتعليم أبنائها ولم تتركهم عرضة للمصادفة والعشوائية حيث أنشأت للعملية التعليمية المؤسسات وسخرّت كل الطاقات من أجل اكساب أفرادها التعلم الصحيح، فالإنسان كائن اجتماعي يألف ويؤلف لا يستغني عن غيره ويكره الوحدة والانعزال، يعيش ضمن جماعات في بيئات مختلفة، ولقد قال الفيلسوف العربي ابن خلدون في مقدمته المشهورة: ” الإنسان اجتماعي بطبعه” وقد لخّصت لنا نظريات النظم البيولوجية الاجتماعية تفاعل الإنسان ببيئته كالتالي:
أولاً: النظرية الحتمية البيئية
حيث تنص هذه النظرية على أن الإنسان يتفاعل مع جميع أجزاء النظام البيئي وتتفاعل هذه الأجزاء مع بعضها البعض، ويقول الفيلسوف أبقراط : أن المناخ يؤثر على التصرف النفسي للعرق البشري السائد في تلك المنطقة، ويؤكد ذلك الفيلسوف العربي ابن خلدون حيث يقول: إن الاختلاف بين النّاس بما في ذلك عاداتهم هي نتيجة تأثرهم ببيئتهم المادية التي تحكمهم بمناخ وغذاء محدد
ثانيا: النظرية الاختيارية أو الإمكانية:
وتعتبر هذه النظرية عكس نظرية الحتميّة البيئيّة، وتقوم مقام الند للنظرية الحتميّة البيئيّة، حيث تنص على: إن للإنسان اليد العليا في تغيير بيئته والتأثير فيها . وتم دعم هذه النظرية بأن درجة تأثير البيئة الطبيعية على البشر تنخفض مع زيادة التطور التكنولوجي.
ثالثًا: النظرية التوافقية:
وتنص على أن العلاقة تبادلية بين الإنسان والبيئة وعلى أنّ سلوك الإنسان هو نتاج عاملان:
أ: تكيفاته اللازمة في بيئته تبعًا لظروفها.
ب: إرادة الإنسان نفسه.
وملخص القول: إن الإنسان يتأثر ويؤثر في البيئة التي يعيش فيها، والتعلّم هو الجزء الأهم من هذه البيئة ولما كانت هذه البيئات مختلفة ومتباعدة فيما بينها كانت كل بيئة تتصف بصفات تميزها عن غيرها فلها عاداتها وتقاليدها ولغتها أو لهجتها وكانت بعض الصفات والسلوكيات تطغى على بعض البيئات فيصبح من السهولة تمييزها عن غيرها ، حتى ظهرت التكنولوجيا الحديثة بوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة فجعلت من العالم قريةً واحدةً فقاربت بين المجتمعات ويسّرت طرق التفاعل فيما بينها واختصرت المسافات ، وطورت ثقافة الأفراد ووسّعت مدركاتهم وجعلتهم متابعين لأحداث العالم والتعرّف على آراء ومعتقدات وثقافات الآخرين والاطلاع على كلّ تطور يحدث في أي بقعة من الأرض بوقت وجيز.
ويعرّف التعلّم بأنه تغيّر في السلوك أي السلوك التي ترتضيه تلك المجتمعات لأفرادها والتي كانت الأسرة والقبيلة تشكّل عماد تلك المجتمعات المتباعدة جغرافيا ، وبعد ذلك ارتبط مفهوم التعلّم في المجتمعات الحديثة بالمدرسة والجامعة، وجاءت العولمة بمفهومها الجديد لتضم كلّ هذه العلوم ببوتقة واحدة ضمن وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فاختلطت الحضارات ببعضها ونتج عن ذلك ثقافة موحّدة يدخل من خلالها الفرد عالم العولمة الحديثة كأنه فرد أصيل منها يستطيع من خلالها التواصل بمن أراد وفي أي بلد وفي أي وقت، وغدت وسائل التعلّم واحدة في كل أقطار العالم، وكذلك المراحل التعليمية ، وطرق التقييم، وأصبح من لا يتعلم كأنه غريب عن مجتمعه وليس له مكانة اجتماعية يفقد جزءًا كبيرًا من تقديره لذاته، محدود العلاقات ، وأصبحت قيمة الفرد بمقدار ما يتسلح به من علم وبما يتركه من أثر وبصمة في هذا العالم يشهد على وجوده.
لقد سادت بعض الدّول باهتمامها بالتعليم وأصبحت مثلا يحتذى بالرغم من ضعف مواردها ، وتأخرت دول أخرى عن ركب الحضارة بإهمالها التعليم وتذيلت قائمة الدول بل أطلق عليها دول العالم الثالث بالرغم من ضخامة ميزانيتها ووفرة الموارد فيها، فبالتعليم تحيا أمم وتموت أخرى.
وما دام الإنسان يتعلّم ويتابع كل جديد فبإمكانه أن يقول وبأعلى صوته: أنا أتعلّم إذن أنا موجود.