لماذا نُغير في أطر تفكير المتعلمين؟ وكيف؟

لماذا نُغير في أطر تفكير المتعلمين؟ وكيف؟

لماذا نُغير في أطر تفكير المتعلمين؟ وكيف؟

بقلم الدكتور محمود المساد

مدير المركز الوطني لتطوير المناهج

  

وأنت تشاهد معلّماً في موقف صفي بهدف تقويمه والوقوف على مدى تمكّنه من أساليب التدريس، وإدارة الصف، ومستوى تفاعل الطلبة، ومدى تحقق أهداف الحصة كما خطط لها. فأنت تجده يمارس دوره بوصفه معلمًا بالطريقة نفسها التي تعلم بها على أيدي المعلمين الذين درّسوه. مع أنه ربما قد خضع لبعض برامج التدريب حول أساليب التدريس، وإدارة الصف وطرح الأسئلة وغيرها، ولكن العبرة هنا في مدى تغير أدائه من مستوى إلى آخر، فهل حقيقة تغير هذا الأداء؟، هل تغير أداؤه وتنوعت أساليبه عمّا كانت عليه في السابق؟ وهل حقيقة أقبل على التدريب واستفاد منه، وتمثل مهاراته، وراكم هذه الخبرات على خبراته السابقة؟

           نحن بحاجة ملّحة هنا إلى أن نضع اليد على مفهوم التغيير من جهة، وعلى الأطر والهياكل التي تساعد في تنظيم الخبرات وتوجيه التفاعل مع المحيط من جهة أخرى، والتي غالباً ما يُشار إليها ببُنى أو هياكل التفكير. فالمعلم في أي وقت نراه فيه، أو نرغب في مشاهدة حصة صفية عنده، يكون مسلحًا ببنى فكرية خاصة به، توجه تفكيره وسلوكه في إطار دوره معلمًا، وحول كيفيات أدائه لهذا الدور، وتوظيفه بطرائق التدريس، ورفعه من نسب تعلم طلبته أفرادًا في غرفة الصف. وهنا نحكم بعد مشاهدة الموقف على أدائه هل هو مناسب أم لا. بمعنى آخر. فإننا نحكم على بناه التفكيرية، وأطره الخاصة التي توجه سلوكه ومدى مناسبتها. هل هي تقليدية؟ وهل تتماشى مع التطور التربوي المرغوب فيه؟

            ولمّا كان التغير سمة طبيعية لازمة تفرضها طبيعة تغير جميع الأشياء من حولنا، وأن التغير والتبدل من حال إلى حال ضرورة، غرضها التماشي مع متطلبات التغيير والتبدل الخارجي في محيط الفرد، كونه مفروضًا عليه ومطلوبًا منه. فإننا نجد حالة الفرد تتراوح بين الارتباك والتردد والإحجام وبين حالة الارتباك والاندفاع والافتخار أمام المواقف مضمون التحدي والتغير.  وعمليّا تُعزى هذه الحالة إلى طبيعة بناه وأطره التفكيرية. بمعنى أن بنى التفكير وأطره التي يحملها الفرد هي التي تحدد حالته عندما يواجه المواقف الجديدة  ، حيث نجده يشعر بالارتباك والحذر، أو يشعر بالارتباك والاندفاع والرغبة في التجريب منذ الوهلة الأولى ، وبعدها يختلف الأفراد في الفترة الزمنية التي تستمر عليها  هذه الحالة  من الارتباك والتردد تمهيدًا للسلوك  الذي يليه ، فإما أن يندفع لاكتساب بنى التفكير الجديدة مبدلًا بها القديمة ومطورًا في أدائه ومتقنًا للمهارات المطلوبة ، أو نجده يتردد محجما عن اكتساب بنى التفكير الجديدة رافضًا لها، بحجة أن بناه التفكيرية التي اعتاد عليها أفضل ، وأنها تفي بالغرض ، بل وأحسن من الوضع الجديد، وهنا نشير إلى حالتين

 أولاهما: الوضع السيكولوجي للفرد

وثانيهما: متطلبات التغير في موضوع التغيير

          وفي هذا الصدد، يشير (جون ديوي ) إلى حاجة الفرد الراغب في ممارسة التفكير الناقد المتعمق إلى نبذ الأحكام المسبقة، ومحافظته على درجة سليمة من الشك في الأمور، وأن يعيش الفرد المتعلم بعقلية منفتحة يبتعد فيها عن عالمه الداخلي، المرتكز على خبراته الشخصية المحدودة والحقائق الملموسة إلى عالم أوسع وأرحب يقوم على التجريد والمحاكمة العقلية، وإنتاج المعرفة الأصيلة بوساطة أطر فكرية متجددة

           ويُعّد وصف ( بياجيه ) للحالة بالتوازن واللاتوازن مُعبّرًا و مفيدًا كونه يزودنا بمنظور لفهم بعض التوترات المتضمنة المصاحبة لتعليم التفكير أو التفكير الناقد ،أو أي مهارات جديدة تختلف عمّا لدى الفرد . حيث أن عملية تعديل الأطر القديمة، واكتساب الأطر الفكرية الجديدة غالباً ما تكون غير مريحة، بل ومؤلمة أحيانًا، وخاصة عندما لا يُكتفى بمجرد إعادة ترتيب مكونات تلك الأطر الفكرية، وإنما تكون الحاجة إلى إدخال أطر مطورة أساسية جديدة بدلاً عنها، وربما قد تكون مناقضة لها ومخالفة لمضامينها

          وقد يؤدي تعريض بعض المعلمين والمتدربين بوصفهم متعلمين باستمرار إلى مزيج من طرق التفكير الجديدة التي فرضتها ضرورة تسلح الطلبة بمهارات تفكيرية عليا، تساعدهم على توليد المعرفة، وإنتاجها وتوظيفها بدل استذكارها وفهمها وتطبيقها فحسب، إلى درجة عالية من الإرباك. غير أن درجة من عدم الراحة في هذا المجال ضرورية، بل ومفيدة بالتأكيد، وذلك لخلق حالة عدم اتزان من جانب، ووعي المعلم لهذه الحالة من جانب آخر. ذلك أن وعي المعلم والمتدرب لسبب عدم التوازن والارتباك لديه، يدفعه إلى اكتساب بنى التفكير وأطره الجديدة بسرعة أكبر، أو إلى إعادة تفعيل بناه التقليدية، أو إعادة هيكلة عملياته التفكيرية التقليدية بما يتماشى مع الوضع الجديد بشكل أيسر وأسهل

          ويُعزى الألم وعدم الراحة المصاحبة لإعادة الهيكلة لبنى التفكير وأطره التقليدية كونها قضايا غير معرفية بمعظمها، وأن فيها جوانب شخصية وعاطفية كثيرة بما في كل ذلك من قيم ومعتقدات. وتعمل القيم الشخصية كشبكة تُعرض بها الخبرات. ويقول ( ينغر ) في هذا المجال  ” إن لكل منّا نظرته الضمنية عن العالم وطريقة عمله ، وإن تلك النظرة التي لم تتعرض للاختبار ، والموجودة في اللاوعي لدينا، هي التي تمكننا من صياغة فهمنا للعالم وتفسيره……، بالوقت نفسه الذي تشكل فيه نظام معتقداتنا ومنظورنا الشخصي لهذا العالم، وهي بذلك تصبح العدسات أو أجهزة التقنية البصرية في مختبراتنا اليومية. فهي التي تُملي علينا ما نراه، وكيف نفسره. إن جانبًا من تعليم التفكير مثلاً لا بد من أن يتضمن تحديًّا للنظريات المختزنة داخليًّا لدى الأفراد (معلمين وطلبة)، وتعليمهم منظورات جديدة لتفسير الأمور. وبذلك، فإن هذه العملية تصبح مشحونة بدرجة عالية من الانفعال

         وفي هذا الصدد لا بُد من القول والتأكيد على أن التعلم والانفعالات تشكل الكثير من القراءات التي تحدد اتجاه القرارات في حياتنا اليومية، فإذا طُلب منك أن تلتحق بزميل لك على الغداء، فإنك ستجد مبررات القرار مستندة إلى مشاعرك السريعة والجريئة نحو المكان والمدعوين…..، وربما لا وقت لديك لتجمع المعلومات الضرورية لاتخاذ القرار بالاستناد إلى المنطق. وحقيقة، فإن هناك منظومة من القيم تعمل موجهات لسلوكنا، وهي في الواقع حالات انفعالية. لذلك؛ علينا أن نتوقف عن العادة القديمة المتمثلة في النظر إلى الانفعالات على أنها غير منطقية دائمًا، أو أن لا شأن لها بطرق تفكيرنا، بل علينا النظر لها على أنها مصدر مهم ومؤثر في عملية التفكير وعملية التعلّم، وحقيقة أن المعلم الجيد هو القادر على إدماج الانفعالات في التفكير والتعلّم بطريقة إيجابية حافزة تقود إلى تجويد عمليات التفكير والتعلّم وتأديتها بفاعلية وإتقان

        وأتذكر في هذا المقام قصة أحد المتدربين في مشاغل التدريب التي كنت أديرها للمعلمين حول تعليم التفكير بشكل عام، وحل المشكلة والتفكير الإبداعي بشكل أكثر تخصيصًا وتفصيلًا. حيث بقي المتدرب طيلة الدورة مترددًا ومرتبكًا، ويناور مبررًا تردده عن القيام باتجاه الدورة ومضمونها بأنه يدرّس بشكل مناسب وملائم لموضوعه ومبحثه. لقد كان مقتنعًا بأن التربية الإسلامية مبحث لا تناسبه أساليب التفكير الحديثة، وأن الطالب عليه فقط أن يؤمن بأحكام الشريعة ويحفظها دون مناقشة.  وبالتالي رفض بسلوكه الانخراط في الوضع الجديد، أو حتى استقبال ما يتصل به من أُطر وبُنى تفكيرية جديدة، متذرعًا أن مبحثه يناسبه الطريقة التي يمارسها هو، وهي الطريقة التي دَرس بها على أيدي المعلمين قبل عقود، والتي تقتصر على الحوار والتساؤل السطحي بغرض تحفيظ الطلبة المعلومات في أفضل الأحوال. مع أن التأمل والنقد والمراجعة والبحث هي مهارات توصل الفرد إلى يقين لا يُنسى، وتجعل من الطالب متعلمًا قادرًا على التفكير بالمعلومات وتوليد المعرفة، واستنتاجها وتوظيفها ببراعة في مواقف جديدة. وأن الدعوة إلى هذا النمط في التفكير حث عليه القرآن الكريم في العديد من المواقع

         وحقيقة فإن المتعلمين يتفاوتون في درجة تحملهم، وكيفية معالجتهم لحالة عدم التوازن التي يمرون بها. فبعض المتعلمين تزيد لديه درجة الإرتباك ومستوى حالة اللاتوازن عندما يتعرض لمواقف تستلزم التغيير، في حين أن بعضهم يجدها بسيطة عادية.  وفي كلا الحالين نحن بحاجة إلى المعالجة، ففي الحالة الأولى نحن بحاجة إلى التقليل من درجة الارتباك ما أمكن ذلك، لتجاوز هذه الحالة وتحقيق الأهداف، وفي الحالة الأخرى نحن بحاجة إلى رفع درجة القلق والارتباك لتكون حافزًا على التعلم وتدفع باتجاه اكتساب الأطر التفكيرية الجديدة.  لهذا؛ فإن الأفضل لهؤلاء المعلمين والمتدربين المتعلمين البحث لهم عن درجة التوازن الملائم – بين التحدي والدعم – والمرور بهم بتدرج معقول ينقلهم بتروًّ وإقناع لا يمس شخصياتهم، أو يثيرها

            وتأسيسًا على ما سبق، فإنني أؤكد على أن بعض المظاهر التي تظهر على المتدربين أو الذين يقفون أمام تغير جديد يهز قناعاتهم وأطرهم التفكيرية التقليدية، من مثل: عدم الرضا والتوتر والإحجام. هي ضرورية ومفيدة. بل إنها صحية وتساعد على التوجه نحو تعديل الأطر التقليدية أو تغييرها ببُنى وأطر جديدة بشكل أسرع وأسهل. وأن عمليات إعادة هيكلة التفكير مؤلمة، بسبب اتصال هذه الأطر الفكرية ومضمونها بشخصية الفرد وعواطفه وقيمه، وأن فيها قيمًا ومعتقدات عزيزة لا يميل المتعلم إلى تغييرها أو التخلي عنها. إضافة إلى أن الشكوى والتذمر واختلاط الأمور والإحساس بعدم التوازن، والوصول إلى حالة عدم التمييز بين الصواب والخطأ، هي مظاهر صحية طبيعية لازمة لاكتشاف المخرج الذي يفضي إلى بنى التفكير الجديدة وتبنيها. إن وعي هذه المظاهر كلها من المدرب والمتدرب كونه معلنًا ومتعلمًا يسّهل عملية التعامل والدعم على طريق تحقيق الأهداف واكتساب المهارات المطلوبة

انضم إلينا على صفحة فيسبوك

You May Also Like